الخميس، 5 أفريل 2012

خمسة نصائح لتحسين أداء الحكومة

د فراس جبلون

مرت أكثر من ثلاثة أشهر على تسلم أول حكومة منتخبة بعد الثورة لمهامها ويمكن أن نقول أن ما حققته إلى حد الآن كان دون المأمول على عديد الأصعدة وذلك لأسباب عديدة. فكي تنجح أي حكومة يجب أن توفر لنفسها مقومات النجاح. فغياب البرنامج الذي تأخر كثيرا وضبابية الرؤية سببت إرباكا وتذبذبا عسر عمل الحكومة وصعب عليها إنجاز أي شيء بالنجاعة والفاعلية التي تتطلبها المرحلة الدقيقة التي نمر بها. ولكن قبل حتى أن نتحدث عن البرامج الاقتصادية والاجتماعية وغيرها هناك شروط أساسية وبديهية للنجاح كانت مع الأسف غائبة وبغيابها حرمت الحكومة نفسها من خلق الظروف السياسية الملائمة لها لتعمل وتعد البرامج وتطبقها بنجاح.

هذه بعض النصائح التي أتقدم بها آملا أن تعمل بها الحكومة ليتحسن أداؤها مستقبلا.

أولا، لا يختلف إثنان أن التركة التي تسلمتها الحكومة ثقيلة وثقيلة جداً والملفات كثيرة وصعبة. لكن الإصرار ليلا نهارا على لوم الحكومة السابقة على هذه التركة أمر مرفوض بل وخطير لأنها بذلك وكأنها تضع نيشانا على صدر بن علي لأنه ترك لنا "بلد الفرح الدائم" لا مشاكل فيه فإذا بالحكومة السابقة جاءت لتدمره نكاية في الحكومة الحالية. هذا الطرح يذكرنا أيضاً بخطاب أحمد فريعة وزير الداخلية إبان الثورة الذي بدل أن يهنئ الشعب على نجاح ثورته وبخه على حجم التدمير الذي لحق البلاد. على هذه الحكومة أن لا تنسى أن حكومة السبسي هي الأخرى وجدت تركة ثقيلة ووضعا خطيرا جداً ومهمتها الأساسية كانت إيصال البلاد إلى الانتخابات بأقل الأضرار، وكما كان على فريعة أن يتفطن إلى أن الخسائر المادية كانت ضرورية لإنجاح الثورة على هذه الحكومة أن تقبل أن أي أضرار حصلت كانت ربما ضرورية أيضا لانجاح المرحلة الانتقالية الأولى وعليها إذن الكف عن تقديمها للرأي العام كمكائد نصبت للإطاحة بها وأن تتوقف عن لعب دور الضحية لأن الشعب يريد حكومة قوية تقوده وليس حكومة يعطف عليها. أخيرا الخطر من التركيز على لوم الحكومة السابقة هو أنه سيشتت مجهودات الحكومة الحالية فيجعل كل طاقتها طاقة سلبية موجهة للوم والتباكي بدل أن تكون طاقة إيجابية موجهة للإصلاح والبناء.

ثانيا، الحكومة تتمتع بشرعية انتخابية وهي فعلا قوية بأغلبيتها الشعبية لكن هذا لا يجب أن يدفعها إلى الغرور في التعامل مع بقية المجتمع. ففي الديمقراطيات تتساوى قيمة كل المواطنين أمام صناديق الاقتراع لكن كما في كل البلدان الديمقراطية على أرض الواقع هناك شريحة من المجتمع لها تأثير أكبر على مجريات الأمور بحكم اهتمامها أكثر من غيرها بالشأن العام ونشاطها وحرصها على أن تكون عنصرا فاعلا فيه. على الحكومة إذن أن تأخذ هذا بعين الاعتبار وتبتعد عن لغة الأرقام وحدها وتحاول تنقية الأجواء وتحسين علاقاتها مع المعارضة السياسية وجمعيات المجتمع المدني والنقابات والإعلام وغير ذلك من القوى الفاعلة إذ من غير المعقول أن تتوتر علاقتها مع كل هؤلاء في نفس الوقت وخلال فترة قصيرة جداً من تسلمها الحكم لأن ذلك لا يمكن أبدا أن يساعدها على النجاح. وحتى لو فرضنا أن نظرية المؤامرة التي تسوق لها بأن كل هؤلاء حاقدون عليها فإن ذلك ليس عذرا لتعاديهم وتهاجمهم بتصريحات نارية في كل الاتجاهات لأن من المهارات التي يجب أن تتوفر فيمن يحكم هي القدرة على احتواء المشاكل وتقريب وجهات النظر حتى تنقذ البلاد من حالة الاحتقان غير المفيدة.

ثالثا، على الحكومة أن تدرك أن الصمود في وجه الاستبداد شيء وتسيير الدول شيء آخر مختلف تماماً. لذلك يجب أن تحرص على أن يكون أعضاء الحكومة من ذوي الكفاءة والقبول لدى الرأي العام بحيث تتفادى المهاترات الزائدة ويكون لها طاقم يمكنها من تحديد برامج واعدة والنجاح في تطبيقها بالدقة والنجاعة المطلوبة. إذن على الحكومة أن تتحلى بالشجاعة والمسؤولية وتقوم في أقرب وقت بتغيير بعض أعضائها غير الأكفاء (هناك على الأقل ثلاثة أو أربعة لا يتحملون الانتظار) إن كانت تبغي النجاح وهذا ليس عيبا ويحدث كثيرا وهو ليس دليل ضعف أو فشل بل دليل قوة وثقة في النفس. فقد عانينا كثيرا من تعيين المسؤولين حسب درجة الولاء للنظام ولا نريد اليوم أن يكون المعيار هو تعيين المسؤول حسب درجة البلاء الذي أصابه من نفس النظام. بعد الثورة نريد أن يكون المقياس الوحيد هو الكفاءة والنزاهة والوطنية وليس الولاء أو البلاء.

رابعا، عليها أن تكف عن المغامرات العنترية في الشؤون الخارجية لأن ذلك قد يأتينا بمشاكل نحن في غنى عنها خاصة أن جبهتنا الداخلية مازالت هشة وبالتالي لا تمكننا من مواجهة الأمواج الدولية العاتية. كما أن ثورتنا لم تنجح بعد وعلينا أولا أن نصونها ونحميها ونوصلها إلى بر الأمان قبل أن نفكر في تصديرها للخارج بأي شكل من الأشكال.

خامسا، الوضوح ثم الوضوح ثم الوضوح. لا شيء يدمر عمل الحكومات غير الضبابية والتذبذب في المواقف والتردد المبالغ فيه لأن ذلك يعطي المواطن الانطباع أن هذه الحكومة ضعيفة وغير قادرة على إفادته وفي نفس الوقت الضبابية تغذي نظريات المؤامرة والريبة والشك التي تعصف بالمجتمع حاليا ما يساهم في خلق حالة من الاحتقان والارتباك لا تساعدها على العمل. عليها إذن أن توضح موقفها من كل المسائل العالقة وتكون حاسمة وشجاعة في أخذ القرارات مهما كانت فهذا أفضل بكثير من ترك الشعب يخمن ماذا يمكن أن تفعل الحكومة في هذه المسألة أو تلك.

هل الشريعة الإسلامية هي الحل؟

دأب المنتسبون للإسلام السياسي منذ عقود على رفع شعار "الاسلام هو الحل" لكل مشاكلنا الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها. المناهضون لهذا الطرح يدحضونه مباشرة بمثال الصومال والسودان وأفغانستان وحتى السعودية التي رغم ثرائها ظلت تحسب من الدول المتخلفة في جميع الميادين.

في الحقيقة أعتقد أن هناك مغالطة كبيرة في الرأيين وجب توضيحها.

فالإسلام كدين جاء رحمة للعالمين وليصلح ما فسد في الأرض وليرفع من شأن المسلمين في دنياهم قبل آخرتهم. ونحن كمسلمين نؤمن أن القيم السمحاء التي جاء بها الإسلام والتي تعلمنا أن نفتخر بها منذ ولدنا لا يمكن إلا أن ترتقي بأي مجتمع حضاريا وتجعل نوعية الحياة فيه أفضل على كل المستويات.

من هذا المنطلق يبدو لي من التجني لوم الإسلام على فشل تلك البلدان لأن الإسلام بريئ منه. فأين الخلل إذن؟

الخلل في رأيي هو في القراءة والفهم الخاص للإسلام الذي يختاره مجتمع ما أو يفرض عليه فرضا فيتأثر ذلك البلد سلبا أو إيجابا وفق خطإ أو صواب تلك القراءة. فلا يخفى على أحد تعدد المذاهب والملل في الإسلام من شيعة وسنة ومالكية وحنفية ووهابية وأباضية وسلفية وغيرها كثير كثير يختلفون في القراءات والرؤى والفلسفات لكن يشتركون جميعا في محاولتهم الادعاء أنهم يقدمون الوسيلة المثلى والفهم الصحيح لتطبيق الإسلام على واقع الحياة وهنا تكمن المغالطة.

فإذا كان الدين في أصله رباني فإن وسيلة تطبيقه على الأمور الدنياوية هي بشرية بالأساس تتغير حسب اجتهاد المجتهدين وفهمهم للإسلام الذي طوروه عن من سبقهم وفق فكرهم الخاص والزمان والمكان الذي عاشوا فيه. ولعل ذلك هو أحد أهم نقاط قوة الإسلام وعظمته التي جعلت منه دينا صالحا لكل زمان ومكان بما أنه يسمح بل يشجع على الإجتهاد (ويعطي أجرا حتى لمن لم يصب) حتى يبقى فعلا على الدوام قوة دفع للأمام وليس إلى الوراء.

وعلى هذا الأساس فإن من يدعو مثلا أن يقع التنصيص في الدستور على أن تكون الشريعة الإسلامية مصدر تشريع أساسي، فيه مغالطة لأنه لا يحدد عن أي شريعة يتحدث أي وفق أي قراءة للإسلام سيقع هذا التشريع. فالمشكل هنا ليس في الإسلام طبعا لأني أعتقد أن غالبية التونسيين يحبذون أن تكون قوانينونا متناسقة مع ديننا، لكن الخطورة، حتى بالنسبة لمن يدعو لتطبيق الشريعة، هو أن يجد نفسه يرزح تحت شريعة أخرى غير تلك التي كان يريدها.

الحل في رأيي إذن هو في الديمقراطية بمعنى أن لا يقع التنصيص على أي مصدر للتشريع في الدستور، لكن بضمان حرية التفكير وحرية المعتقد وحرية التنظيم سيتمكن كل حزب من أن تكون له المرجعية الفكرية التي يريدها دينية كانت أو غير ذلك وسيتمكن من الترويج لأفكاره وبرامجه بكل حرية ليكسب ثقة الناس لينتخبوه في انتخابات نزيهة وشفافة تجعل القوانين والتشريعات التي تمثل الشعب، مهما كانت، هي فقط التي تطبق. وإن لم يسيطر أي حزب بحيث يفرض تصوره الخاص تكون تلك التشريعات خليطا توافقيا يعكس تنوع البلاد وثراء ميولاتها وأنا على يقين أن تكوين شعبنا سيفرز قوانين نابعة من دينه وفي نفس الوقت تعكس ثراء التجربة الثقافية والحضارية للتونسيين على مدى قرون وأيضا منسجمة مع عصرنا والتطور الحاصل فيه.

بهذا فقط سنضمن حدا أدنى من الديناميكية التي تمكننا من التطور والرقي على سلم المعرفة والعلوم ليتقدم وطننا وينتعش اقتصادنا ويزول بؤسنا أما حشرنا في زاوية تنظر إلى العالم وفق قراءة معينة ابتكرها فكر بشري منذ مئات السنين لا يمكن إلا أن تدفعنا إلى التحجر ثم التقهقر إلى غياهب الجهل والتخلف وربما إلى صراع يدمرنا وهو ليس ما قامت من أجله ثورتنا ولا يجب أن يكون.

السبت، 2 أفريل 2011

ما زلت أراهن على الشعب التونسي

حين قررت سنة 2005 أن أنشط بصفة علنية في المعارضة التونسية ضد نظام بن علي وذلك في صلب الحزب الديمقراطي التقدمي لاقيت استغرابا من الكثير من أصدقائي واعتراضا شديدا من كل أفراد عائلتي تقريبا متعللين بسببين. أولا لأني بذلك سأعرض نفسي وربما عائلتي أيضا لخطر كبير قد يهدد مستقبلي بالكامل. ثانيا، لأن هذه التضحية، حسب رأي أغلبهم، سأقدمها من أجل شعب لا يستحقها لأنه خانع وقابل للاستبداد ولأنه خاصة في جله غير واع ولا يفهم معنى الديمقراطية وحتى إن جيء له بها على طبق فإنه لن يحسن استغلالها بل ستعود عليه بالوبال. وفي هذا السياق كثيرا ما سمعت المثال العراقي وكيف أننا نحن العرب لا نفهم إلا بالعصا!

بالنسبة للسبب الأول كانت إجابتي، خاصة لعائلتي، أنني قدر المستطاع وفي حدود مبادئي وقناعاتي لن أعطي للنظام عذرا لإيذائي وفعلا وللأمانة خلال السنين الماضية لم يلحقني أي ضرر عدا زيارة قام بها البوليس لعائلتي في تونس إبان إضراب الجوع الذي خاضه لمدة شهر نجيب الشابي ومية الجريبي من أجل حرية الاجتماع فيما عرف وقتها بمعركة المقرات. سبب الزيارة كان لجمع معلومات عني ولنصيحتي أنه علي أن "نرد بالي". إذن لم أتضرر بتاتا من نشاطي السياسي مقارنة بأبطال الحزب الآخرين وخاصة من الشباب الذين عانوا حتى من السجون والتعذيب.

أما عن السبب الثاني والأهم بالنسبة لي فكنت دائما أرد وبكل حماس أن ذلك غير صحيح فالشعب التونسي له من الثقافة والوعي ما سيمكنه من استيعاب مبادئ الديمقراطية وممارستها بكل اقتدار وحضارة. فقد عشت 12 سنة في دولتين من أعرق الديمقراطيات في العالم واستنتجت أن الفرق بيننا وبينهم هو أن النخبة لديهم ليست سلبية وعازفة عن السياسة بل هي التي تحرك البلاد من خلال النشاط السياسي المباشر في الأحزاب أو في المجتمع المدني في الجمعيات المتعددة تساهم في تأطير الجماهير وتشكيل الرأي العام وتعديل المسار ومراقبة مردود السياسيين ومحاسبتهم.

كلمة نخبة هنا لا تعني من له أكثر مالا أو أرفع شهادات علمية كما يحلو للبعض فهمها بل تعني كل شخص مثقف وله القدرة على التفكير المنظم والمنطقي ويختار أن يفيد مجتمعه بتلك المهارات دون مقابل أي أن يلعب دور المحرك لذلك المجتمع.

إلى جانب النخبة، هناك أيضا الأغلبية من عموم الناس التي تضم أيضا الكثير من المثقفين والواعين الذين اختاروا السلبية وآثروا أن يعيشوا حياتهم لأنفسهم وأن يلعبوا دور التابع أو المشاهد للشأن العام دون أن يساهم فيه. في هذه الدول، كما في تونس، عامة الناس تضم أيضا الجهلة والبسطاء والذين لا يفقهون من الحياة سوى كرة القدم وجلسة خمرية مع الأصدقاء. هؤلاء عكس ما تقوله لنا عقدنا ليسوا بالقليلين عندهم.

إذن طبقة عموم الناس لا تختلف علينا كثيرا أما المشكل فهو أنه ليس لنا نخبة. أغلب من كان يمكن أن يشكل النخبة اختار "السلامة" وانسحب من الحياة العامة وتركها مرتعا لمن دجن كل شيء فيها واستغلها ونهبها.

كان هذا دائما رأيي وكان دائما رهاني على وعي الشعب التونسي وعلى ضرورة استنهاظ همة النخبة، أو من يمكن أن يشكل النخبة، حتى تقوم بواجبها تجاه وطنها لتؤطر عموم الناس لإقناعهم بضرورة الانتقال نحو الديمقراطية لأنها الحل الوحيد لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية وللقضاء على الفساد. الحل كان دائما في نظري في الشعب التونسي نفسه وليس مثلا في محاولة استجداء الضغط الخارجي.

وفعلا جاءت أخيرا ثورة الكرامة من الشعب لتحررنا جميعا وتضعنا فجأة أمام مسؤولياتنا التي أهملناها لسنين. هذه الثورة بقدر ما أثبتت، كما توقعت، أن كل الشعب التونسي تقريبا يؤمن بالديمقراطية ومنافعها بقدر ما وضعتنا في موقف حرج لأنه أصبح علينا فجأة أن نمارس هذه الديمقراطية ونتحمل مسؤولية تاريخية في النجاح فيها دون أن نكون جاهزين لذلك تماما.

فحالة التصحر التام التي فرضها النظام السابق جعل جل الشعب التونسي غير ملم بكل خيوط السياسة وأنا لا أناقض نفسي هنا فحين أقول أن التونسيين واعون بالديمقراطية ولهم من الثقافة والذكاء والارث الحضاري ما يمكنهم من ممارسة الديمقراطية والسياسة بكل اقتدار لا يعني أنهم اليوم وفي هذه اللحظة وبعد بضع أسابيع من رحيل الدكتاتورية سيكونون في موقع يمكنهم من فهم السياسة وألاعيبها وذلك لعدة أسباب.

فالتونسيون اليوم لا يعرفون اللذين مارسوا السياسة في العقود الماضية فأشهر السياسيين في تونس هم في الواقع مجهولون لدى الرأي العام. فالتونسي لا يعرفهم ولا يعرف مقاوفهم وتاريخهم واديولوجياتهم وخلفياتهم ولا يعرف من مع من ومن ضد من لا يعرف التحالفات الموجودة أو إن كانت تحالفات اديولوجية أم مصلحية. هل نصدق هذا الشخص لأنه رفع اليوم شعار الثورة وأعلن أنه يتكلم باسمها دون الرجوع إلى تاريخه؟ هل نحن واعوون بالأجندات الخفية التي من المحتمل أن تكون لهذا الطرف أو ذاك وخاصة أن هناك الكثيرين الذين يحاولون اليوم إعادة التموقع وتلميع الصورة؟ هل نساند الشرعية الثورية على حساب الشرعية النضالية مثلا؟ ومن يمكنه أن يحصل على الشرعية الثورية؟ من له حق منحها في غياب شرعية صندوق الاقتراع؟ أسئلة كثيرة لن تجد أجوبة وتتوضح الرؤية إلا إذا انقشع الغبار وقلت الضوضاء حتى تتوفر المعطيات اللازمة للعقل السليم كي يفكر يحلل ويستنتج.

ما عمق المشكل أكثر هو تواصل غياب وسائل الاعلام ذات المصداقية. فالقناة الوطنية مازالت ترزح تحت نفس القيود وسيلزمها أكثر من الإرادة السياسية لترتقي للتطلعات. أما نسمة وحنبعل فمن الواضح أن ما يهمها هو نسبة المشاهدة أو "الأوديمات" أكثر من الموضوعية حتى أتفادى الحديث عن أجندات أخرى سمعنا عنها ولكنها تظل في حدود الإشاعات. فيبدو لي أن قناة تلفزية خاصة تحصلت على تأشيرة عمل في عهد بن علي لا يمكن أن تكون معادية له ومساندة للثورة وبما أن ماليكيها لم يتغيروا فهي إما أنها تنافق اليوم أو كانت تنافق بالأمس وفي كلتا الحالتين لا يمكن الوثوق بها كوسيلة إعلام ستنقل المعلومة والآراء المختلفة بكل حياد. مصدر المعلومة الآخر الذي لعب دورا بارزا في هذه الثورة وما تلاها وهي الانترنات والفايسبوك خاصة، فيها الغث والسمين والإشاعات العفوية، وأحيانا المدبرة، تملأ ذلك الفضاء دون قيود وخاصة لما ينخرط حتى من يحسب على النخبة في نشر تلك الإشاعات والمغالطات دون تدقيق ودون وعي. الشعب التونسي ككل شعوب العالم مهما كان ذكيا لن يكون له مناعة ضد ضغط وسائل الاعلام.

إضافة لذلك فإن الغياب الشبه كلي للجمعيات الحقيقية وذات المصداقية التي ستؤطر الناس وتوجههم لما هو خير لهم ولوطنهم يعد عائقا آخر أمام ممارسة صحية للديمقراطية ولعل غياب التأطير وتشوش البوصلة السياسية لدى المواطنين أدى إلى هذا العدد الكبير من الأحزاب السياسية الجديدة.

هذه اللخبطة وغياب التأطير والمعطيات التي تمكن التونسي من التحليل البناء لواقعه السياسي الجديد هي الخطر الذي يتربص التجربة الديمقراطية الجديدة ويهدد بإخراجها عن مسارها.

الحل الوحيد هو أن تظطلع النخبة بدورها كاملا في هذه المرحلة الدقيقة وتلقي بكل ثقلها للمشاركة الفعالة في تشكيل الواقع الجديد من منظور الواقعية والموضوعية وبعيدا عن التشنج والشعبوية والحماس الفياض الذي قد يحجب الرؤية ويمنع التفكير السليم.

وأنا على يقين أن لنا نخبة قادرة على لعب هذا الدور بكل نجاح لأني مازلت كما كنت أراهن على الشعب التونسي دون سواه.

د فراس جبلون

السبت، 21 نوفمبر 2009

ما هي أسباب فشل المنتخب في التأهل لكأس العالم

د فراس جبلون

كل من تابع مباراة تونس والمزمبيق أصيب بخيبة أمل كبيرة لا بسبب الهزيمة والفشل في التأهل لكأس العالم، بل خاصة بسبب الوجه الهزيل والمخجل الذي ظهر به الفريق. فلو كنا قدمنا مباراة كبيرة مسكنا بزمامها منذ البداية ثم تنكر لنا الحظ لقلنا أن تلك هي أحكام الكرة ولخرجنا بشرف. لكن الانسحاب بهذه الطريقة المذلة هو ما حز في نفس كل أحباء المنتخب رغم أن الأغلبية الساحقة قد تكون الآن، بعد أن فاقت من الصدمة، قد حمدت الله على الانسحاب حتى نتجنب الظهور مرة أخرى بوجه هزيل أمام أنظار كل العالم نكرس به سمعة "الفريق الممل" التي أصبحت لدينا على الساحة الدولية.

المؤكد هو أن التحضير النفساني للاعبين لم يكن جيدا إذ نزلوا للمباراة دون روح ينتظرون هدية من كينيا بدل التركيز على تحقيق الانتصار. الخيارات التكتيكية للمدرب هي الأخرى تتدعو للاستغراب والتشكيلة المقدمة وتوقيت التغييرات ونوعيتها وتمركز اللاعبين واستعمالهم في غير مراكزهم المعتادة هي أيضا أشياء لا يمكن فهمها.

أسباب الانسحاب في الحقيقة غير مرتبطة بما حدث أمام الموزمبيق فحسب بل ترجع أيضا للوجه الهزيل الذي ظهرنا به أمام نيجيريا في تونس حين لم نلعب من أجل الفوز. وتعود أيضا لانهزامنا أمام السعودية في عقر دارنا لأن المدرب لم ير ضرورة خوض تلك المباراة بعقلية انتصارية يبدأ بها التحضير النفساني للاعبيه بتحقيق فوز مقنع. انسحبنا أيضا حين برر المدرب المساعد المردود الضعيف الذي قدمه المنتخب أمام كينيا بافتقارنا للاعبين يستطيعون صنع اللعب إذ كيف يمكن لمدرب بعد تصريح كهذا أن يخاطب لاعبيه بعد ذلك ليشحذ هممهم ويقنعهم أنهم "قادرون على صنع اللعب" أمام الموزمبيق لتحقيق الانتصار خارج القواعد وعلى عشب اصطناعي؟ ثانيا إذا كنا لا نصنع اللعب على أرضنا وأمام جمهورنا في مباراة سجلنا فيها هدفا منذ الدقيقة الأولى أمام فريق في حجم كينيا فلماذ نسعى أصلا للترشح لكأس العالم قد نلاقي فيها فرقا كالبرازيل وألمانيا وبعقلية كعقلية السيد الماجري قد لا يستطيع اللاعبون فيها النوم مدة أسبوع قبل المباراة من شدة الضغط النفساني.

كل هذه تحاليل فنية وجزئيات أكيد أن عدة مختصين تناولوها بالدرس والتمحيص في محاولة لفهم ما جرى علنا نتجنب تكرار نفس الأخطاء مرة أخرى حتى يظهر المنتخب "بوجهه الحقيقي" في كأس أمم إفريقيا على الأقل. المشكل هو أن هذا الوجه الهزيل هو في الواقع الوجه الحقيقي للمنتخب ولا يجب أن نغطي عين الشمس بغربال الترشحات الأخيرة لكأس العالم أو بالظفر بكأس إفريقيا في دورة نظمناها على أرضنا أو بمباراة كبيرة يقدمها المنتخب ويظهر فيها بغير "وجهه الحقيقي" بين الفينة والأخرى.

مشكل الكرة التونسية في الواقع هو أن الأسلوب الدفاعي الممل والعقيم الذي توخاه كويلهو ليس جديدا علينا فلومار أيضا انتهج نفس الأسلوب رغم أن كان لديه مهاجمين كالجزيري وسانتوس يفتقر إليهم كويلهو اليوم. هذا الأسلوب الممل ليس اختراع لومار أيضا ولكننا ننسى أنه كان نفس أسلوب كاسبارزاك. كما أن المسألة ليست مرتبطة بكون المدرب أجنبي أم تونسي إذ لا يجب أن ننسى أننا لعبنا كأس العالم في اليابان تحت قيادة مدرب تونسي ولعبنا كالعادة بعقلية انهزامية وخطط دفاعية عقيمة. قبل أن نلوم هذا المدرب أو ذاك علينا أن نتساءل لماذا يصرون جميعا على الاتباع هذا الأسلوب. الاجابة على سؤال كهذا صعبة لأن الأسباب عديدة. إذ يمكن القول إننا فشلنا في تكوين لاعبين ممتازين فنيا منذ العمل القاعدي في أصناف الشبان فغابت عنا تقاليد المشاركات الدولية الناجحة في هذه الأصناف. وحتى إن سطع نجم أحد الشبان فإنه سرعان أن يخبو بسبب قلة الانضباط وغياب العقلية الاحترافية داخل وخارج الميدان. لكن يبقى أهم الأسباب في نظري هو الهشاشة النفسية للاعب التونسي بصفة عامة ونقص فادح في الثقة في النفس يمنعه من التحلي بروح المبادرة فيجنح دائما لأسلوب النعامة والانطواء بدل المجازفة ومحاولة فرض الذات.

قد يجادل البعض أن هذا الطرح خاطئ بدليل نجاح تونس في التأهل ثلاث مرات متتالية لكأس العالم في السنوات الأخيرة. هذا صحيح لكن لا يجب أن ننسى أن ذلك لم يحصل إلا بعد أن أصبحت 5 فرق كاملة تترشح من إفريقيا ولا أعتقد أنه قليل علينا كتونسيين أن نطالب أن نكون على الأقل من الخمس الأوائل في قارتنا. ثم إذا حللنا كيف ترشحنا سنجد أننا كنا نوعا ما محظوظين إذ أن منافسينا المباشرين كانوا مصر سنة 1998 والمغرب سنة 2006 أي دولا عربية تشبهنا كرويا وهشاشتنا النفسية لا تعيقنا كثيرا أمامها للاعتبارات كثيرة، ثم الكوت ديفوار سنة 2002 وهو أيضا ليس بالضرورة من كبار إفريقيا ولا يجب أن يجعلنا فريقه الحالي أو الفترة الزاهية التي عاشها أول التسعينات نعتقد بغير ذلك (لم يتخط دور المجموعات في كأس إفريقيا سنة 2000 و 2002 أما في 2004 فهو لم يترشح أصلا). فلو كنا واجهنا فرقا كالكامرون ونيجيريا لربما كانت الصورة مغايرة تماما. إلى جانب ذلك فإنه باستثناء مباراة مصر في تونس سنة 1997 وما صاحبها من شحنة معنوية جبارة بسبب وفاة المرحوم الهادي بالرخيصة والتي فزنا فيها 1-0 فقط فإننا فشلنا في هزم منافسينا المباشرين وتعادلنا معهم في كل مرة ذهابا وإيابا.

ثم إن تلك المرات التي ترشحنا فيها لم تجلب لنا سوى خيبة الأمل والسمعة السيئة بسبب المردود الذي قدمناه و كنا دائما نعود بنقطة وحيدة نحققها عادة بعد أن نضمن الانسحاب وبالتالي ينقص الضغط النفسي على اللاعبين في حين أن منتخبات كأنغولا وتوغو تترشح لأول مرة قدمت مردودا أفضل منا. دليل آخر على أن ترشحاتنا كانت دائما ضربة حظ هي النتائج التي نحققها في كأس إفريقيا في نفس العام. فهل يعقل لفريق مترشح لكأس العالم أن ينسحب سنة 1998 من الربع النهائي أمام فريق كبوركينافاسو حتى وإن كان البلد المنظم، وننسحب من نفس الدور سنة 2006 أمام نيجيريا بعد أن اضطررنا لمواجهتها بسبب هزيمتنا أمام غينيا 3-0. أما في 2002 فإننا لم نتعد دور المجموعات أصلا.

أما سنة 2000 حين حققنا "انجازا كبيرا" بوصولنا للدور النصف النهائي فإننا انهزمنا أمام الكامرون 3-0 رغم خطتنا الدفاعية المعتادة هذا إلى جانب أننا تخطينا الدور الأول فقط بفضل هدية نيجيريا التي هزمت المغرب بفارق هدفين رغم تأكدها من التأهل. أما عن نهائي 1996 فقد حققه فريق كان في حل من كل ضغط نفسي بسبب فقدان الجميع كل أمل فيه إذ كان كل اللاعبين تقريبا شبه نكرة وكانت تلك الدورة تلي مباشرة كارثة 1994 وبالتالي كان مجرد تفادي نتائج مذلة سيعد انجازا لذلك الفريق الشاب.

إذن فتقريبا باستثناء سنة 2004 حين ظهرنا بغير وجهنا الحقيقي فإننا كنا أغلب الوقت أوفياء لتقاليدنا الراسخة في الأسلوب الدفاعي الممل الذي يفرضه على كل مدرب خوف لاعبينا الشديد وهشاشتهم النفسية وافتقارهم المفزع والدائم للثقة في النفس. فرغم ما يوفر للاعبين من ظروف طيبة وحوافز مالية وإطار فني بأجور خيالية، ورغم توفير بنية تحتية رياضية جيدة فإن كل ذلك فشل في إعطائنا منتخبات تشرفنا على مر السنين رغم جرعات الكوكايين التي كنا نأخذها بين الفينة والأخرى بنتائج تخدرنا مؤقتا ما نلبث أن نصحو منها بخيبة تلو أخرى.

أرجو أن تكون الصدمة الأخيرة بانسحابنا المخزي الصدمة التي ستجعلنا نعي أن التجهيزات والحوافز وغيرها ضرورية ولكن تظل غير كافية إذا لم نعالج جوهر أسباب الفشل المتتالي وهو افتقار لاعبينا للثقة في النفس وهشاشتهم النفسية التي قد تكون متأتية من عقلية التونسي بصفة عامة أي أن العلاج قد يتخطى حدود كرة القدم والرياضة ليشمل مراجعة تربية الأطفال منذ الروضة والمدرسة وأيضا تغيير الخطاب المستعمل في وسائل الاعلام وخاصة منه الموجه للشباب حتى يتضمن محتوى يدعو للاعتزاز بالنفس ونبذ الخوف والتردد وإلى تكريس روح المبادرة والسعي الدائم نحو الأفضل.

إن القيود التي تفرض على طموح شبابنا وفرض الوصاية عليهم منذ الصغر قد تكون من الأسباب التي تجعلنا نعلن الهزيمة قبل وقوعها فنرضى دائما بالقليل بدعوى أننا على الأقل أحسن من غيرنا، في حين أننا قطعا نستحق أفضل من ذلك ـ وبكثير.

الأربعاء، 1 أكتوبر 2008

أزمة الغذاء: أسباب العلة ورأي في الدواء

د فراس جبلون

في الوقت الذي كان العالم مشغولا فيه بأزمة الرهن العقاري وتداعياتها، تنبه إلى وجود أزمة أكثر خطورة وهي عودة شبح التضخم وغلاء أسعار المواد الأساسية وخاصة المواد الغذائية التي زادت أسعارها بأكثر من 83 بالمائة في الثلاث سنوات الأخيرة و 50 بالمائة خلال العام الماضي فقط.

هذه الأزمة حدّت من قدرة الدول الغنية على مواجهة تبعات أزمة الرهن العقاري بتخفيض نسبة الفائدة أكثر كما كان يأمل المستثمرون ورجال الأعمال لأن ذلك سيتسبب في رفع نسبة التضخم ويهدد بقاء حكوماتها المنتخبة في السلطة.

لكن الدول الأكثر تضررا من أزمة الغذاء هذه هي مع الأسف الدول الفقيرة والنامية التي شهد البعض منها تحركات شعبية احتجاجية كانت عنيفة في أحيان كثيرة. هذه الاضطرابات طالت دولا عديدة كهايتي والمكسيك والفيلبين وعدة دول عربية كالمغرب ومصر.

أما تونس التي بقيت نسبيا في مأمن من تبعات أزمة الإئتمان العالمية فإنها وجدت نفسها في مرمى نيران أزمة الغذاء مما سبب حالة تململ شعبي تجلى خاصة في اضطرابات الحوض المنجمي والأحداث الأليمة التي جدت في تلك المنطقة الفقيرة من الجنوب التونسي.

ففي بلد يعتمد أهله على الخبز اعتمادا كبيرا لا يمكن إلا أن ترمي هذه الأزمة بظلالها الثقيلة عليه إذ تشير الإحصائيات إلى أن معدل استهلاك الفرد من الحبوب في تونس يصل إلى 220 كلغ سنويا في حين يبلغ المتوسط العالمي 175 كلغ سنويا مما يضعها في صدارة الدول العربية المستهلكة لهذه المادة الأساسية. مع الأسف، فإن حجم الزراعة التونسية لا يلبي حاجيات البلاد الغذائية مما يجبرها على استيراد كميات كبيرة منها من الأسواق العالمية ويجعلها بالتالي عرضة لتقلبات هذه السوق. فعلا، ساهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة كبيرة في ارتفاع عجز الميزان التجاري ب 13 بالمائة سنة 2007 وبلغ هذا العجز مليار دينار خلال الأشهر الثلاث الأولى من هذه السنة. كما زاد هذا الغلاء من الضغط على ميزانية الحكومة بسبب تفاقم نفقات الدعم التي قد تصل في 2008 إلى 793 مليون دولار مقابل 578 مليون دولار كانت متوقعة في قانون المالية للعام الجاري.

الحكومة التونسية سارعت بالاعتراف بوجود الأزمة وشددت على أن أسبابا خارجية يصعب التحكم فيها هي السبب في حين حملها الكثيرون المسؤولية كاملة بقطع النظر عن الأسباب الحقيقية لهذا الارتفاع غير المسبوق في الأسعار العالمية للمواد الغذائية.

فما هي أسباب هذه الأزمة بالضبط؟

الأسباب متعددة ومعقدة إذ بعد أكثر من 30 سنة من الاستقرار والانخفاض النسبي، وخاصة في العشر سنوات الأخيرة، ارتفعت فجأة أسعار معظم المواد الغذائية إلى مستويات قياسية.

أحد أهم العوامل وراء هذه الأزمة هو ارتفاع الطلب بسبب ارتفاع عدد السكان في العالم الذي وصل إلى 6 مليارات دون أن يواكبه ارتفاع مماثل في العرض بل إن الانتاج تراجع جراء تلف المحصول في حقول عديدة بسبب الأعاصير التي زادت حدتها ووتيرتها مؤخرا، حسب بعض المختصين، جراء التغيرات المناخية التي تسبب فيها الاحتباس الحراري.

ارتفاع الطلب أيضا تسبب فيه النمو السريع الحاصل في بعض الدول الناشئة كالهند والصين. هذا النمو جعل سكان هذه الدول يعيشون في رفاهية أكبر مكنتهم من زيادة كمية استهلاكهم اليومي من الغذاء وأيضا مكنتهم من تغيير نوعية ما يأكلونه فتحولوا من الحبوب والأرز إلى منتوجات الألبان واللحم الذي يحتاج انتاج كلغ واحد فقط منه إلى أكثر من 8 كلغ من الحبوب.

هذا النمو المسجل في الصين أدى أيضا إلى تزايد حاجتها للطاقة مما ساهم بدرجة كبيرة في ارتفاع أسعار المحروقات. هذه الأسعار القياسية تسببت بدورها في زيادة كلفة انتاج الحبوب وغيرها وأيضا في زيادة كلفة نقلها مما انجر عنه بالضرورة ارتفاع أكبر في أسعار المواد الغذائية.

من ناحية أخرى، فإن الارتفاع الحاد في أسعار النفط، الذي تضاعف ثمنه قرابة الأربع مرات منذ بداية القرن الحالي، دفع بدول عديدة نحو بدائل جديدة تمثلت في الوقود الحيوي. هذا الوقود يستخرج أساسا من مواد غذائية مثل الحبوب وقصب السكر وبالتالي أدى انتاجه إلى تحويل كميات كبيرة من الحبوب وغيرها نحو انتاج الطاقة عوض استعمالها كغذاء.

بالاضافة إلى كل هذا فإن أزمة الرهن العقاري جعلت عديد المستثمرين الباحثين عن ربح أضمن وأرفع يحوّلون أموالهم من أسواق الأسهم والائتمان إلى أسواق المواد الأساسية. بالفعل يعزو العديد من الخبراء الارتفاع في أسعار هذه المواد (البترول والغذاء) إلى المضاربة عليها أكثر منه بسبب خلل في العرض والطلب.

الأسباب إذن عديدة ومتشعبة لكن ليست كل الدول تضررت منها فالدول المنتجة للحبوب كالبرازيل والولايات المتحدة انتفعت لأنها مصدرة للمواد الغذائية. أما الدول الموردة والتي تعتمد على الأسواق العالمية للحصول على الغذاء فإنها تضررت كثيرا من هذه الأزمة.

مع الأسف تونس مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأسواق العالمية مما جعلها ترزح كغيرها من الدول، خاصة النامية والفقيرة منها، تحت وطأة هذه الأزمة. ومما زاد من درجة تأثر تونس بهذه الأزمة هو تراجع الدينار التونسي أمام العملات الأساسية حيث تراجعت قيمته مقابل اليورو مثلا ب 32 بالمائة منذ 2002. هذا التقهقر يتسبب تلقائيا في غلاء أسعار السلع المستوردة حتى وإن بقيت أسعارها في السوق العالمية دون تغيير.

من الواضح إذن أن غلاء أسعار المواد الغذائية يعود إلى أسباب خارجية لا يمكن لأي دولة التحكم فيها. لكن ذلك لا يعفي أي حكومة من مسؤوليتها كاملة. فبريطانيا مثلا حققت في العشر سنوات الأخيرة نجاحا اقتصاديا باهرا على يدي وزير ماليتها ورئيس حكومتها الحالي غوردن براون ولكن ذلك لم يشفع له أمام شعبه الذي عاقب حزب العمال على مردوده الاقتصادي بالإطاحة برئيس بلدية لندن الذي بقي في منصبه 8 سنوات كاملة وتدل كل استطلاعات الرأي أن المحافظين سيفوزون قطعا في الانتخابات القادمة ليطيحوا ببراون نفسه.

ورغم ذلك فإن آخر ما تحتاجه تونس الآن هو توجيه أصابع الاتهام لهذه الجهة أو تلك بل ما تحتاجه هو أن يتكاتف الجميع لمواجهة الأزمة صفا واحدا وذلك بتنقية الأجواء المحتقنة واستعمال قدرات البلاد كاملة عبر حوار مفتوح وصريح لتشخيص مواطن الداء والعمل معا على إيجاد وتطبيق الدواء.

التدابير العاجلة التي يجب اتخاذها يجب أن تهدف لمحاولة تقليل وطأة هذه الأزمة على ضعاف الحال بتوزيع مساعدات لمن يحتاجها وبزيادة أجور العمال والموظفين بما يسمح لهم بمواجهة هذه الطفرة في الأسعار وربما أيضا بتخفيض الرسوم الجمركية على بعض المواد الغذائية كما فعل المغرب.

أما لضمان أممنا الغذائي على المدى الطويل فمن الضروري التقليل من درجة اعتمادنا على الأسواق العالمية وذلك بزيادة الانتاج الزراعي المحلي عبر استعمال تقنيات زراعية حديثة وبتقييم الاستراتيجية الزراعية للوقاية من تداعيات الجفاف الذي يضرب البلاد بصفة دورية.

مع ذلك فلا يمكن لتونس أن توقف كليا اعتمادها على الأسواق العالمية لضمان امداداتها من المواد الغذائية وبالتالي يجب عليها أيضا تطوير قدراتها الفنية على استخدام الأدوات المالية الحديثة كالعقود الآجلة وغيرها بغية مساعدتها على الوفاء بحاجياتها الغذائية والتحوط ضد مخاطر تقلبات أسواق المواد الأساسية في العالم.

من الضروري أيضا مراجعة سياسة الدعم للسلع الاستهلاكية الأساسية حتى تصبح موجهة وأكثر نجاعة وفاعلية بحيث يستفيد منها فقط من يحتاجها دون أن تثقل كاهل خزانة الدولة.

ختاما، هذه الأزمة جاءت لتذكرنا أننا مازلنا دولة نامية يعاني شعبها كلما ارتفعت أسعار المواد الغذائية لأنها تمثل نسبة عالية مما ينفقه التونسي عموما مقارنة بسكان الدول المتقدمة. الظروف الاقتصادية المواتية التي شهدها العالم في السنين الفارطة ولت وربما لن تعود قبل زمن. لذلك فتحقيق التنمية التي تضمن لنا مستوى المعيشة الذي نحن أهل له سيحتاج منا في المستقبل جهدا وحنكة وتضحيات أكبر.

الأحد، 27 جويلية 2008

أسواق المال وأسواق الخضار


د فراس جبلون

ما زالت الأسواق المالية العالمية تعيش على وقع أزمة الرهن العقاري وتداعياتها المدمرة على معظم البنوك الاستثمارية واقتصاد أغلب الدول، المتقدمة وحتى النامية منها. ـ

عديد الخبراء يرجعون مسؤولية هذه الأزمة إلى الأدوات المالية الجديدة التي وقع تداولها بكثافة كبيرة في السنوات الأخيرة والتي تعرف بالأوراق المالية المدعومة بأصول وخاصة أداة تسمى "التزامات الدين المضمونة". ـ
(Collateralized Debt Obligations – CDO). ـ

هذه الأداة مكنت البنوك من تجميع قروض العقارات عالية المخاطر مع بعضها البعض في حزمة واحدة وأضافت إليها نسبة قليلة من القروض المضمونة بحيث تمكنت من تلميع الحزمة ككل واستصدار تقييم لها من وكالات التقييم المختصة على أساس أنها ذات جودة عالية، أي، حصلت على أعلى درجة من فئة أأأ (AAA). هذا التقييم جعل كل المستثمرين يتهافتون على هذه الأدوات الجديدة على أساس أنها ذات ربح مضمون فصارت في مدة قصيرة ذات سيولة فائقة تباع وتشترى بسهولة كبيرة وكأن المستثمرين نسوا أو تناسوا المخاطر الكبيرة الكامنة فيها. ـ

لنفهم هذه الأدوات أكثر يمكن أن نقارن أسواق المال بأسواق الخضار حين يشح العرض بسبب قلة المنتوج وفجأة يبدأ أحد التجار في بيع خضار في غاية الجودة في سلال في غاية الأناقة من محله الذي جهزه بأحدث التجهيزات وأضاف إلى كل ذلك سعرا أسال لعاب كل من في السوق فتهافت عليه الجميع وتجمهروا كل يبغي حصته من هذه السلعة الفريدة والرخيصة دون أن يعير اهتماما لشرط يقول أن كل سلة تباع كلها حزمة واحدة ودون تقليب: "خذ الكل أو اترك الكل". و بما أنه في سوق الخضار كما في سوق المال يتبع الفرد ما تفعله الجماعة دون أن يضيع وقتا في طرح أسئلة قد تضيع عليه وقتا ثمينا فقد قرر الجميع "أخذ الكل" قبل أن ينفد. مع الوقت تكونت سوق موازية وبدأ الناس يتاجرون في هذه السلال و يبيعونها لمن لا يملك العضلات المفتولة ليحصل على نصيبه من المصدر الأصلي. فبدأ سماسرة السوق يبيعون السلال أعلى من سعرها الأصلي لعامة الناس الذين أسال لعابهم ما يحدث من نشاط وحركية وصراخ وهستيريا الربح الذي طال الجميع. ـ

وبالطبع كان هناك سلال أفضل من الأخرى فارتفع سعرها وبالتالي هامش ربحها فأصبح السماسرة يبيعونها لبعضهم البعض فصار بعضهم يملك منها مخزونا عظيما ينوي بيعه لاحقا بأسعار أعلى. هذه الهستيريا جعلت أيضا الكثيرين يهرعون نحو التداين لتوفير رأس المال الذي يمكنهم من الاستثمار في هذه السلال السحرية ذات السيولة العالية التي يمكن بيعها في أي لحظة بمجرد عرضها في السوق، أي، لن يكون هناك مشكل في استرجاع المال وتوفير السيولة اللازمة متى كان ذلك ضروريا. كان الجميع يتداين من الجميع: من البنوك من الحكومة من السماسرة (فيما بينهم) وأيضا من عامة الناس. لم يسأل أحد من أين تأتي كل هذه السلال ولم يكلف أحد نفسه النظر وراء المحل الأصلي الذي يطرحها في السوق ليرى الشاحنات وهي تفرغ الخضار العفنة لملء السلال بها قبل أن توضع فوقها طبقة رقيقة من الخضار الجيدة وتغلف السلة في الأخير بغطاء بلاستيكي شفاف من أعلى طراز. ـ

مع مرور الوقت بدأت رائحة الخضار العفنة تفوح في السوق فبدأت الريبة تخامر المسثمرين واكتشفوا تدريجيا أن سلالهم في الواقع مجرد كومة من الخضار العفنة لا تساوي شيئا فهوت فجأة قيمتها ولم يعد هناك من يريد شراءها فتكبد الكثيرون خسائر فادحة وأعلن البعض إفلاسه خاصة حين طالبت البنوك والمقرضون الآخرون باسترجاع أموالهم. ما حدث أيضا هو أنه لا أحد كان يعرف من من السماسرة الكبار له مخزون أكبر من غيره ومن من البنوك أقرض هؤلاء السماسرة خاصة أن نسبة الدين كانت أضعاف أضعاف رأس المال الأصلي والكل يعرف ذلك. لذا أصبح السماسرة والبنوك يخشون التعامل مع بعضهم البعض فأصبح التداين صعبا ومكلفا حتى لتمويل مشاريع أخرى لا علاقة لها بسوق الخضار خاصة أن أغلب السماسرة كانت لهم نشاطات في أسواق أخرى. وبالتالي طالت الأزمة سوق السمك المجاور وسوق الماشية وسوق الملابس في الطرف الآخر للمدينة ولم يسلم أحد من لعنة الخضار الفاسدة. ـ

هذا بالفعل تشبيه مبسط لما يحدث الآن في أسواق الرهن العقاري الأمريكية. تهافت الجميع على الأدوات المالية الجديدة بسبب العائد المرتفع الذي توفره فأصبح الجميع يريد شراءها دون أن يسأل أسئلة كثيرة حول ماهيتها الحقيقية أو يقيم نسبة المخاطرة تقييما صحيحا وخاصة أن طريقة التقييم تعتمد على برمجيات كمبيوتر تقدر سعر تلك العقود على أساس نظريات رياضية مازالت تعتبر بدائية مقارنة مع تلك المستعملة في علم الفضاء مثلا وفي خطواتها الأولى مقارنة حتى مع تقنيات مستعملة في مجالات أخرى في عالم المال. هذا الخطأ في التقييم بالإضافة إلى ارتفاع الطلب أدى إلى ارتفاع ثمنها بصورة مهولة أخرجتها تدريجيا عن نطاق السيطرة وعجز بالتالي المضاربون عليها عن تصميم الحافظة الاستثمارية المثالية التي تقي من المخاطر الكامنة فيها. هذه المخاطر تسربت تدريجيا مع الوقت من عالم الفرضيات إلى عالم المحسوسات والواقع المعاش. ـ

السهولة التي أصبحت عليها البنوك قادرة على تمويل القروض التي تصدرها دفعها لاصدار قروض أكثر وبسعر فائدة أقل وبمعايير بسيطة وميسرة مكنت أي شخص من الاقتراض لشراء المنازل والعقارات التي يريدها بقطع النظر على قدرته على تسديد تلك القروض ودون حتى دفع مبلغ مقدم. ارتفاع الطلب هذا على شراء العقارات انجر عنه بطبيعة الحال ارتفاع في أسعارها وبالتالي ارتفاع في قيمة القروض اللازمة لتمويلها وأيضا قيمة العقود المالية المشتقة منها. هذه الحلقة المفرغة تسببت في تكوين فقاعة ضخمة أكبر حتى من فقاعة الانترنات. هذه الفقاعة هي فقاعة القروض العقارية عالية المخاطرة أي أن الحل الذي استلهمته البنوك الكبرى في أعقاب الأزمة الفارطة تحول هو نفسه إلى مشكل. ـ

الاثنين، 31 مارس 2008

ماذا يحدث في أسواق المال ولماذا علينا كتونسيين أن نهتم؟

د فراس جبلون

يواجه العالم اليوم بوادر تباطؤ اقتصادي بسبب أزمة حادة في أسواق المال الأمريكية والعالمية عموما وعلى حد تعبير ألان غرينسبان، مدير البنك المركزي الأمريكي السابق، فإن ما يحدث الآن في الولايات المتحدة هو أكبر ركود يشهده الاقتصاد الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية. في الواقع كل القصة بدأت فعليا من أمريكا في أوت الماضي مع ما صار يعرف بأزمة الرهن العقاري العالي المخاطر. فما هي هذه الأزمة بالضبط وماهي تداعياتها؟ ولماذا علينا نحن كتونسيين أن نعيرها اهتمامنا؟

مع بداية هذا القرن عرفت أسواق المال في أمريكا وغيرها وعلى إثر انهيار أسهم الشركات العاملة في مجال الانترنات أزمة حادة كانت تنبئ بحالة ركود شديدة وخاصة أنها تزامنت تقريبا مع هجمات 11 سبتمبر 2001 التي أثرت بشكل كبير على أداء الاقتصاد الأمريكي. تلك الأزمة سرعان ما وقع تجاوزها لأن البنوك الأمريكية عثرت على وجهة جديدة لضخ أموالها واستثمارها بكيفية حققت لها أرباحا قياسية. هذه الوجهة هي سوق الرهن العقاري. ـ

إذ بدأت البنوك الأمريكية في إصدار قروض لاستثمارها في قطاع العقارات وأدى تنافسها إلى تسهيل معايير الإقراض بحيث أصبح يمكن لأي شخص أن يتحصل على قرض لشراء منزل أحلامه دون أن يكون له بالضرورة ما يثبت أنه قادر على سداد هذا الدين كعمل يوفر له دخلا قارا أو سجل ائتمان مقبول لدى البنوك المقرضة. الغريب هنا هو لماذا تقرض البنوك أناسا تعرف أنهم سيعجزون عن سداد تلك الديون؟

في الواقع هناك عدة عوامل جعلت ذلك ممكنا. السبب الأهم هو أن هذه البنوك لم تكن تهتم كثيرا بما سيحدث لتلك القروض لأنها كانت تبيعها مباشرة لمستثمرين آخرين ممررة بذلك درجة الانكشاف على تلك المخاطر إليهم ومحققة في الآن نفسه ربحا من تلك العملية. هذا الطرف الثالث هم بنوك وصناديق استثمارية ذات سمعة سمحت لها بإقناع مستثمرين آخرين من عامة الجمهور من أشخاص ومؤسسات صغرى وغيرها بالاستثمار في تلك القروض لتحقيق ربح "مضمون". لكن لماذا يقبل المستثمرون الذين يبحثون عن الربح المضمون بوضع مدخراتهم في استثمارات عالية الخطورة؟

السر وراء ذلك هو أن المهندسين الماليين في البنوك اخترعوا أدوات مالية جديدة تعرف بالأوراق المالية المدعومة بأصول وكان أفضل ما جادت به قريحتهم أداة تسمى "التزامات الدين المضمونة". هذه الأداة مكنت البنوك من تجميع القروض عالية المخاطر مع بعضها البعض في حزمة واحدة وأضافت إليها نسبة قليلة من القروض المضمونة بحيث تمكنت من تلميع الحزمة ككل واستصدار تقييم لها من وكالات التقييم المختصة على أساس أنها ذات جودة عالية. هذه كانت اللمسة السحرية التي جعلت المستثمرين يتهافتون على هذه الأدوات الجديدة التي صارت في مدة قصيرة عروس أسواق الائتمان العالمية خاصة بعد الأرباح العالية التي حققتها في البداية. وتجاوزت الظاهرة حدود الولايات المتحدة فصرت تجد عقودا في التزامات الدين المضمونة بعقارات موجودة في الولايات المتحدة مسجلة في دفاتر حسابات بنوك وشركات وصناديق تأمين وتقاعد إلخ في كامل أنحاء المعمورة. ـ

لماذا انهارت أسواق الائتمان؟

خلال السنوات الماضية حدثت تغيرات في المشهد الاقتصادي العالمي ساهمت بكيفية أو بأخرى في انهيار أسواق الائتمان بالطريقة التي حدثت، إذ مثل الصعود السريع للتنين الصيني على الساحة الاقتصادية العالمية الحدث الأبرز في بداية هذا القرن إذ شكل استهلاكه وحاجته المتنامية للطاقة وللنفط بالخصوص السبب الأهم وراء ارتفاع سعره المشط في الأسواق العالمية في السنوات الأخيرة. وشكلت الصين أيضا منافسا عنيدا للولايات المتحدة على الساحة الدولية دفع هذه الأخيرة إلى عدم الاكتراث للتراجع المطرد لقيمة عملتها أمام العملات الرئيسية وذلك في محاولة لدعم القدرة التنافسية لصادراتها مقارنة بالأسعار الصينية البخسة رغم التذمر المعلن لعديد الدول من هذه الحالة خاصة تلك التي ربطت عملتها بالدولار. ـ

انخفاض قيمة الدولار أيضا يندرج ضمن سياسة نقدية اتبعتها الإدارة الأمريكية الحالية في محاولة للتصدي للعجز المتنامي في ميزانها التجاري وحسابها الجاري خاصة مع تنامي الانفاق على الحرب في العراق والمقدر حسب بعض المحللين أن يصل إلى حدود الثلاثة تريليون دولار مع نهاية سنة 2009 ما يجعل الدين الأمريكي يصل إلى حدود 10 تريليون دولار في تلك السنة مقارنة بـ 5 تريليون سنة 2000. تراجع الدولار خلق حالة عدم ثقة في العملة الخضراء دفعت بعديد الدول لمحاولة فك ارتباط عملتها بها ودعم موقف المطالبين بالتوقف عن تسعير النفط بالدولار واعتماد سلة عملات كبديل عنه. ضعف الدولار أيضا تزامن مع انتعاشة لليورو شجعت عديد الاستثمارات الخارجية المباشرة على التوجه نحو دول الاتحاد الأوروبي بدل الولايات المتحدة وتحول استثمارات كبرى من الدولار لليورو. ـ

كل هذه العوامل وغيرها تضافرت لتساهم في تأزيم الوضع الاقتصادي في أمريكا فارتفعت نسبة التضخم وفاقت نسبة البطالة المعدلات المنخفضة عادة فتردت القدرة الشرائية للمواطنين وخاصة الفئات الضعيفة منهم مما أدى إلى عجز أعداد غير مسبوقة من الناس عن سداد أقساط دينهم خاصة أن القروض التي استلموها صممت بحيث يكون سعر الفائدة ضعيفا ومستقرا لسنتين أو ثلاثة ثم يرتفع فجأة لنسب يعجزون معها عن السداد وبالتالي تضطر البنوك لانتزاع منازلهم منهم وبيعها في المزاد العلني بسعر أقل بكثير من قيمة القرض الأصلي.هذا الوضع أدى لانهيار السندات والأوراق المالية المضمونة بتلك العقارات وخلق هذه الأزمة الحادة في سوق الرهن العقاري العالي المخاطر التي مازلنا نعيش على وقعها والتي يتوقع الكثيرون أن تستمر ربما لسنة أخرى على الأقل إلى أن تستقر أسعار العقارات في حدود قيمتها الحقيقية. ـ

كان لهذه الأزمة تداعيات مختلفة بعضها مباشر مثل انهيار "بير ستارن" خامس أكبر مؤسسة مالية أمريكية، وأخرى غير مباشرة تمثلت في تكرار حالات الفساد المالي والنصب في عديد البنوك الأمريكية والأوروبية في محاولة لتغطية الخسائر الكبرى التي تكبدها تجار المال لعل أبرزها فضيحة البنك الفرنسي "سوسيتي جنرال" الذي تكبد خسائر قدرت بحوالي 5 مليار يورو تسبب فيها أحد موظفيه الصغار، مما طرح عدة أسئلة حول مدى نجاعة أنظمة المراقبة الداخلية لدى بعض المصارف. كما بدأ مكتب التحقيقات الفدرالي " اف بي آي" يحقق في أزمة الرهن العقاري وفي حالات احتيال محاسبية قد تعطي بعدا جنائيا لما يحدث. ـ

ماذا يهمنا نحن كتونسيين؟

إلى جانب أن القصة مثيرة ومشوقة فإن للأمر أبعادا كثيرة أخرى تجعلنا وبلدنا معنيين بهذه الأزمة. ففي عصر العولمة أصبح لما يحدث في غرب الأرض تداعيات مباشرة في شرقها وبسرعة عجيبة. وبما أن الاقتصاد التونسي هو اقتصاد مفتوح نسبيا ومرتبط بالأسواق العالمية بدرجة عالية فإن تونس ستضرر (أو تنتفع) لا محالة من هذه الأزمة. ـ

رغم أنه يمكن القول أن درجة انكشاف تونس المباشر على هذه الأزمة طفيفة أومنعدمة فإن تقديم تقويم دقيق لدرجة هذا الانكشاف يبقى صعبا في ظل شحة الأرقام المتوافرة وانعدام الشفافية اللازمة لمعرفة مدى جاهزية اقتصادنا للهزات الخارجية. ورغم ذلك تبقى هناك قراءة عامة للوضع نستطيع من خلالها فهم مدى تأثرنا بهذه الأزمة. ـ

فإلى جانب ارتفاع سعر البترول وتأثيره المباشر على ميزانية الدولة فإن فقدان المستثمرين للثقة في سوق الأسهم و سوق الإئتمان دفعهم إلى الاستثمار في المواد الأساسية من بترول وذهب وأيضا من قمح وأرز وغيره من المواد الاستهلاكية الضرورية، مما حمل الكثير من المحللين على تفسير الارتفاع المطرد في أسعار هذه المواد بالمضاربة عليها أكثر منه بارتفاع الطلب. هذا الارتفاع في الأسعار يمكن أن يشعر به كل شخص، فقيرا كان أم غنيا، وهو ظاهرة تشمل جل الدول في العالم تقريبا. ولم يحد نسبيا من ارتفاع درجة التضخم جراء ذلك سوى انخفاض أسعار سلع أخرى تستورد خاصة من الصين. ـ

و ستؤثر حالة الركود التي قد تضرب الإقتصاد الأمريكي بالضرورة على الاقتصاد الأوروبي، أكبر شريك لتونس. وبما أن اقتصادنا يعتمد أساسا على التصدير إلى هذه الدول فإن تراجع اقتصادها قد يحد من إقبالها على الاستيراد منا وبالتالي سيؤثر على ميزاننا التجاري الذي يشكو من عجز مزمن أصلا. ـ

عمود آخر من أعمدة الإقتصاد التونسي وهو السياحة التي قد تشهد تراجعا إذا رأى السائح الأوروبي أن عليه أن يضغط على ميزانيته العائلية وهي سياسة تقشفية تفرضها عليه حالة التوجس الراهنة وخاصة أن السياح الذين تعتمد عليهم تونس، عكس دول أخرى كالمغرب، هم من الطبقة الوسطى الذين تعودوا على تمويل إجازاتهم الصيفية بقروض يسددونها على طول السنة. فإذا سلمنا أن معايير الحصول على تلك القروض صارت أكثر صرامة لاستنتجنا أن عدد هؤلاء السياح سينخفض بالضرورة في هذا الموسم السياحي. و تتوقف درجة هذا التراجع على مدى تحسن الوضع الاقتصادي العالمي في الأشهر القادمة ومع مرونة وكيفية تعامل العاملين في هذا القطاع مع هذه التطورات وخاصة مع تداعيات خطف السائحين النمساويين في المدة الأخيرة. ـ

في مقابل كل هذه المخاطر كان لارتفاع سعر البترول تأثير إيجابي على دول الخليج البترولية التي أصبحت لها سيولة كبيرة تود استثمارها في مشاريع تضمن لها الرخاء حتى بعد نفاد النفط من جوف أراضيها. مثلا لعبت صناديق الثروة السيادية لهذه الدول دورا أساسيا في توفير السيولة للبنوك المنكوبة بأزمة الائتمان بأن وفرت لها نحو 40 مليار دولار من رؤوس الأموال الجديدة. أزمة الرهن العقاري وبوادر تراجع الاقتصاد الأمريكي والخوف من الاستثمار في العقارات الأمريكية بالذات جعل هذه الدول تجنح إلى توجيه استثماراتها نحو وجهات جديدة في دول الاتحاد الأوروبي بالأساس ولكن أيضا في دول أخرى كالدول العربية ومنها بالطبع تونس. بالفعل فإن ما نشهده اليوم من تدفق ملحوظ للاستثمارات الخليجية في قطاع العقارات بالخصوص هو جزء من سياسة شاملة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالوضع الاقتصادي العالمي. من هذه الناحية إذن استفادت تونس من الأزمة الراهنة وتحصلت على استثمارات كبرى لم تعرفها من قبل قد تحدث تغييرا جذريا في الوضع الاقتصادي للبلاد. ـ


قصارى القول أنه إذا كانت لأزمة الرهن العقاري تداعيات اقتصادية واجتماعية خطرة وجب التحوط منها والتقليل من درجة ضررها، فإن لها أيضا جانبا إيجابيا يجب العمل على مزيد الانتفاع الأقصى منه من خلال العمل والتفاعل معه وليس بمجرد الجلوس وانتظار ما ينوبنا تلقائيا من قوة الدفع الذاتية لتلك الاستثمارات القادمة نحونا. ـ