الأحد، 27 جويلية 2008

أسواق المال وأسواق الخضار


د فراس جبلون

ما زالت الأسواق المالية العالمية تعيش على وقع أزمة الرهن العقاري وتداعياتها المدمرة على معظم البنوك الاستثمارية واقتصاد أغلب الدول، المتقدمة وحتى النامية منها. ـ

عديد الخبراء يرجعون مسؤولية هذه الأزمة إلى الأدوات المالية الجديدة التي وقع تداولها بكثافة كبيرة في السنوات الأخيرة والتي تعرف بالأوراق المالية المدعومة بأصول وخاصة أداة تسمى "التزامات الدين المضمونة". ـ
(Collateralized Debt Obligations – CDO). ـ

هذه الأداة مكنت البنوك من تجميع قروض العقارات عالية المخاطر مع بعضها البعض في حزمة واحدة وأضافت إليها نسبة قليلة من القروض المضمونة بحيث تمكنت من تلميع الحزمة ككل واستصدار تقييم لها من وكالات التقييم المختصة على أساس أنها ذات جودة عالية، أي، حصلت على أعلى درجة من فئة أأأ (AAA). هذا التقييم جعل كل المستثمرين يتهافتون على هذه الأدوات الجديدة على أساس أنها ذات ربح مضمون فصارت في مدة قصيرة ذات سيولة فائقة تباع وتشترى بسهولة كبيرة وكأن المستثمرين نسوا أو تناسوا المخاطر الكبيرة الكامنة فيها. ـ

لنفهم هذه الأدوات أكثر يمكن أن نقارن أسواق المال بأسواق الخضار حين يشح العرض بسبب قلة المنتوج وفجأة يبدأ أحد التجار في بيع خضار في غاية الجودة في سلال في غاية الأناقة من محله الذي جهزه بأحدث التجهيزات وأضاف إلى كل ذلك سعرا أسال لعاب كل من في السوق فتهافت عليه الجميع وتجمهروا كل يبغي حصته من هذه السلعة الفريدة والرخيصة دون أن يعير اهتماما لشرط يقول أن كل سلة تباع كلها حزمة واحدة ودون تقليب: "خذ الكل أو اترك الكل". و بما أنه في سوق الخضار كما في سوق المال يتبع الفرد ما تفعله الجماعة دون أن يضيع وقتا في طرح أسئلة قد تضيع عليه وقتا ثمينا فقد قرر الجميع "أخذ الكل" قبل أن ينفد. مع الوقت تكونت سوق موازية وبدأ الناس يتاجرون في هذه السلال و يبيعونها لمن لا يملك العضلات المفتولة ليحصل على نصيبه من المصدر الأصلي. فبدأ سماسرة السوق يبيعون السلال أعلى من سعرها الأصلي لعامة الناس الذين أسال لعابهم ما يحدث من نشاط وحركية وصراخ وهستيريا الربح الذي طال الجميع. ـ

وبالطبع كان هناك سلال أفضل من الأخرى فارتفع سعرها وبالتالي هامش ربحها فأصبح السماسرة يبيعونها لبعضهم البعض فصار بعضهم يملك منها مخزونا عظيما ينوي بيعه لاحقا بأسعار أعلى. هذه الهستيريا جعلت أيضا الكثيرين يهرعون نحو التداين لتوفير رأس المال الذي يمكنهم من الاستثمار في هذه السلال السحرية ذات السيولة العالية التي يمكن بيعها في أي لحظة بمجرد عرضها في السوق، أي، لن يكون هناك مشكل في استرجاع المال وتوفير السيولة اللازمة متى كان ذلك ضروريا. كان الجميع يتداين من الجميع: من البنوك من الحكومة من السماسرة (فيما بينهم) وأيضا من عامة الناس. لم يسأل أحد من أين تأتي كل هذه السلال ولم يكلف أحد نفسه النظر وراء المحل الأصلي الذي يطرحها في السوق ليرى الشاحنات وهي تفرغ الخضار العفنة لملء السلال بها قبل أن توضع فوقها طبقة رقيقة من الخضار الجيدة وتغلف السلة في الأخير بغطاء بلاستيكي شفاف من أعلى طراز. ـ

مع مرور الوقت بدأت رائحة الخضار العفنة تفوح في السوق فبدأت الريبة تخامر المسثمرين واكتشفوا تدريجيا أن سلالهم في الواقع مجرد كومة من الخضار العفنة لا تساوي شيئا فهوت فجأة قيمتها ولم يعد هناك من يريد شراءها فتكبد الكثيرون خسائر فادحة وأعلن البعض إفلاسه خاصة حين طالبت البنوك والمقرضون الآخرون باسترجاع أموالهم. ما حدث أيضا هو أنه لا أحد كان يعرف من من السماسرة الكبار له مخزون أكبر من غيره ومن من البنوك أقرض هؤلاء السماسرة خاصة أن نسبة الدين كانت أضعاف أضعاف رأس المال الأصلي والكل يعرف ذلك. لذا أصبح السماسرة والبنوك يخشون التعامل مع بعضهم البعض فأصبح التداين صعبا ومكلفا حتى لتمويل مشاريع أخرى لا علاقة لها بسوق الخضار خاصة أن أغلب السماسرة كانت لهم نشاطات في أسواق أخرى. وبالتالي طالت الأزمة سوق السمك المجاور وسوق الماشية وسوق الملابس في الطرف الآخر للمدينة ولم يسلم أحد من لعنة الخضار الفاسدة. ـ

هذا بالفعل تشبيه مبسط لما يحدث الآن في أسواق الرهن العقاري الأمريكية. تهافت الجميع على الأدوات المالية الجديدة بسبب العائد المرتفع الذي توفره فأصبح الجميع يريد شراءها دون أن يسأل أسئلة كثيرة حول ماهيتها الحقيقية أو يقيم نسبة المخاطرة تقييما صحيحا وخاصة أن طريقة التقييم تعتمد على برمجيات كمبيوتر تقدر سعر تلك العقود على أساس نظريات رياضية مازالت تعتبر بدائية مقارنة مع تلك المستعملة في علم الفضاء مثلا وفي خطواتها الأولى مقارنة حتى مع تقنيات مستعملة في مجالات أخرى في عالم المال. هذا الخطأ في التقييم بالإضافة إلى ارتفاع الطلب أدى إلى ارتفاع ثمنها بصورة مهولة أخرجتها تدريجيا عن نطاق السيطرة وعجز بالتالي المضاربون عليها عن تصميم الحافظة الاستثمارية المثالية التي تقي من المخاطر الكامنة فيها. هذه المخاطر تسربت تدريجيا مع الوقت من عالم الفرضيات إلى عالم المحسوسات والواقع المعاش. ـ

السهولة التي أصبحت عليها البنوك قادرة على تمويل القروض التي تصدرها دفعها لاصدار قروض أكثر وبسعر فائدة أقل وبمعايير بسيطة وميسرة مكنت أي شخص من الاقتراض لشراء المنازل والعقارات التي يريدها بقطع النظر على قدرته على تسديد تلك القروض ودون حتى دفع مبلغ مقدم. ارتفاع الطلب هذا على شراء العقارات انجر عنه بطبيعة الحال ارتفاع في أسعارها وبالتالي ارتفاع في قيمة القروض اللازمة لتمويلها وأيضا قيمة العقود المالية المشتقة منها. هذه الحلقة المفرغة تسببت في تكوين فقاعة ضخمة أكبر حتى من فقاعة الانترنات. هذه الفقاعة هي فقاعة القروض العقارية عالية المخاطرة أي أن الحل الذي استلهمته البنوك الكبرى في أعقاب الأزمة الفارطة تحول هو نفسه إلى مشكل. ـ