الأربعاء، 1 أكتوبر 2008

أزمة الغذاء: أسباب العلة ورأي في الدواء

د فراس جبلون

في الوقت الذي كان العالم مشغولا فيه بأزمة الرهن العقاري وتداعياتها، تنبه إلى وجود أزمة أكثر خطورة وهي عودة شبح التضخم وغلاء أسعار المواد الأساسية وخاصة المواد الغذائية التي زادت أسعارها بأكثر من 83 بالمائة في الثلاث سنوات الأخيرة و 50 بالمائة خلال العام الماضي فقط.

هذه الأزمة حدّت من قدرة الدول الغنية على مواجهة تبعات أزمة الرهن العقاري بتخفيض نسبة الفائدة أكثر كما كان يأمل المستثمرون ورجال الأعمال لأن ذلك سيتسبب في رفع نسبة التضخم ويهدد بقاء حكوماتها المنتخبة في السلطة.

لكن الدول الأكثر تضررا من أزمة الغذاء هذه هي مع الأسف الدول الفقيرة والنامية التي شهد البعض منها تحركات شعبية احتجاجية كانت عنيفة في أحيان كثيرة. هذه الاضطرابات طالت دولا عديدة كهايتي والمكسيك والفيلبين وعدة دول عربية كالمغرب ومصر.

أما تونس التي بقيت نسبيا في مأمن من تبعات أزمة الإئتمان العالمية فإنها وجدت نفسها في مرمى نيران أزمة الغذاء مما سبب حالة تململ شعبي تجلى خاصة في اضطرابات الحوض المنجمي والأحداث الأليمة التي جدت في تلك المنطقة الفقيرة من الجنوب التونسي.

ففي بلد يعتمد أهله على الخبز اعتمادا كبيرا لا يمكن إلا أن ترمي هذه الأزمة بظلالها الثقيلة عليه إذ تشير الإحصائيات إلى أن معدل استهلاك الفرد من الحبوب في تونس يصل إلى 220 كلغ سنويا في حين يبلغ المتوسط العالمي 175 كلغ سنويا مما يضعها في صدارة الدول العربية المستهلكة لهذه المادة الأساسية. مع الأسف، فإن حجم الزراعة التونسية لا يلبي حاجيات البلاد الغذائية مما يجبرها على استيراد كميات كبيرة منها من الأسواق العالمية ويجعلها بالتالي عرضة لتقلبات هذه السوق. فعلا، ساهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة كبيرة في ارتفاع عجز الميزان التجاري ب 13 بالمائة سنة 2007 وبلغ هذا العجز مليار دينار خلال الأشهر الثلاث الأولى من هذه السنة. كما زاد هذا الغلاء من الضغط على ميزانية الحكومة بسبب تفاقم نفقات الدعم التي قد تصل في 2008 إلى 793 مليون دولار مقابل 578 مليون دولار كانت متوقعة في قانون المالية للعام الجاري.

الحكومة التونسية سارعت بالاعتراف بوجود الأزمة وشددت على أن أسبابا خارجية يصعب التحكم فيها هي السبب في حين حملها الكثيرون المسؤولية كاملة بقطع النظر عن الأسباب الحقيقية لهذا الارتفاع غير المسبوق في الأسعار العالمية للمواد الغذائية.

فما هي أسباب هذه الأزمة بالضبط؟

الأسباب متعددة ومعقدة إذ بعد أكثر من 30 سنة من الاستقرار والانخفاض النسبي، وخاصة في العشر سنوات الأخيرة، ارتفعت فجأة أسعار معظم المواد الغذائية إلى مستويات قياسية.

أحد أهم العوامل وراء هذه الأزمة هو ارتفاع الطلب بسبب ارتفاع عدد السكان في العالم الذي وصل إلى 6 مليارات دون أن يواكبه ارتفاع مماثل في العرض بل إن الانتاج تراجع جراء تلف المحصول في حقول عديدة بسبب الأعاصير التي زادت حدتها ووتيرتها مؤخرا، حسب بعض المختصين، جراء التغيرات المناخية التي تسبب فيها الاحتباس الحراري.

ارتفاع الطلب أيضا تسبب فيه النمو السريع الحاصل في بعض الدول الناشئة كالهند والصين. هذا النمو جعل سكان هذه الدول يعيشون في رفاهية أكبر مكنتهم من زيادة كمية استهلاكهم اليومي من الغذاء وأيضا مكنتهم من تغيير نوعية ما يأكلونه فتحولوا من الحبوب والأرز إلى منتوجات الألبان واللحم الذي يحتاج انتاج كلغ واحد فقط منه إلى أكثر من 8 كلغ من الحبوب.

هذا النمو المسجل في الصين أدى أيضا إلى تزايد حاجتها للطاقة مما ساهم بدرجة كبيرة في ارتفاع أسعار المحروقات. هذه الأسعار القياسية تسببت بدورها في زيادة كلفة انتاج الحبوب وغيرها وأيضا في زيادة كلفة نقلها مما انجر عنه بالضرورة ارتفاع أكبر في أسعار المواد الغذائية.

من ناحية أخرى، فإن الارتفاع الحاد في أسعار النفط، الذي تضاعف ثمنه قرابة الأربع مرات منذ بداية القرن الحالي، دفع بدول عديدة نحو بدائل جديدة تمثلت في الوقود الحيوي. هذا الوقود يستخرج أساسا من مواد غذائية مثل الحبوب وقصب السكر وبالتالي أدى انتاجه إلى تحويل كميات كبيرة من الحبوب وغيرها نحو انتاج الطاقة عوض استعمالها كغذاء.

بالاضافة إلى كل هذا فإن أزمة الرهن العقاري جعلت عديد المستثمرين الباحثين عن ربح أضمن وأرفع يحوّلون أموالهم من أسواق الأسهم والائتمان إلى أسواق المواد الأساسية. بالفعل يعزو العديد من الخبراء الارتفاع في أسعار هذه المواد (البترول والغذاء) إلى المضاربة عليها أكثر منه بسبب خلل في العرض والطلب.

الأسباب إذن عديدة ومتشعبة لكن ليست كل الدول تضررت منها فالدول المنتجة للحبوب كالبرازيل والولايات المتحدة انتفعت لأنها مصدرة للمواد الغذائية. أما الدول الموردة والتي تعتمد على الأسواق العالمية للحصول على الغذاء فإنها تضررت كثيرا من هذه الأزمة.

مع الأسف تونس مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأسواق العالمية مما جعلها ترزح كغيرها من الدول، خاصة النامية والفقيرة منها، تحت وطأة هذه الأزمة. ومما زاد من درجة تأثر تونس بهذه الأزمة هو تراجع الدينار التونسي أمام العملات الأساسية حيث تراجعت قيمته مقابل اليورو مثلا ب 32 بالمائة منذ 2002. هذا التقهقر يتسبب تلقائيا في غلاء أسعار السلع المستوردة حتى وإن بقيت أسعارها في السوق العالمية دون تغيير.

من الواضح إذن أن غلاء أسعار المواد الغذائية يعود إلى أسباب خارجية لا يمكن لأي دولة التحكم فيها. لكن ذلك لا يعفي أي حكومة من مسؤوليتها كاملة. فبريطانيا مثلا حققت في العشر سنوات الأخيرة نجاحا اقتصاديا باهرا على يدي وزير ماليتها ورئيس حكومتها الحالي غوردن براون ولكن ذلك لم يشفع له أمام شعبه الذي عاقب حزب العمال على مردوده الاقتصادي بالإطاحة برئيس بلدية لندن الذي بقي في منصبه 8 سنوات كاملة وتدل كل استطلاعات الرأي أن المحافظين سيفوزون قطعا في الانتخابات القادمة ليطيحوا ببراون نفسه.

ورغم ذلك فإن آخر ما تحتاجه تونس الآن هو توجيه أصابع الاتهام لهذه الجهة أو تلك بل ما تحتاجه هو أن يتكاتف الجميع لمواجهة الأزمة صفا واحدا وذلك بتنقية الأجواء المحتقنة واستعمال قدرات البلاد كاملة عبر حوار مفتوح وصريح لتشخيص مواطن الداء والعمل معا على إيجاد وتطبيق الدواء.

التدابير العاجلة التي يجب اتخاذها يجب أن تهدف لمحاولة تقليل وطأة هذه الأزمة على ضعاف الحال بتوزيع مساعدات لمن يحتاجها وبزيادة أجور العمال والموظفين بما يسمح لهم بمواجهة هذه الطفرة في الأسعار وربما أيضا بتخفيض الرسوم الجمركية على بعض المواد الغذائية كما فعل المغرب.

أما لضمان أممنا الغذائي على المدى الطويل فمن الضروري التقليل من درجة اعتمادنا على الأسواق العالمية وذلك بزيادة الانتاج الزراعي المحلي عبر استعمال تقنيات زراعية حديثة وبتقييم الاستراتيجية الزراعية للوقاية من تداعيات الجفاف الذي يضرب البلاد بصفة دورية.

مع ذلك فلا يمكن لتونس أن توقف كليا اعتمادها على الأسواق العالمية لضمان امداداتها من المواد الغذائية وبالتالي يجب عليها أيضا تطوير قدراتها الفنية على استخدام الأدوات المالية الحديثة كالعقود الآجلة وغيرها بغية مساعدتها على الوفاء بحاجياتها الغذائية والتحوط ضد مخاطر تقلبات أسواق المواد الأساسية في العالم.

من الضروري أيضا مراجعة سياسة الدعم للسلع الاستهلاكية الأساسية حتى تصبح موجهة وأكثر نجاعة وفاعلية بحيث يستفيد منها فقط من يحتاجها دون أن تثقل كاهل خزانة الدولة.

ختاما، هذه الأزمة جاءت لتذكرنا أننا مازلنا دولة نامية يعاني شعبها كلما ارتفعت أسعار المواد الغذائية لأنها تمثل نسبة عالية مما ينفقه التونسي عموما مقارنة بسكان الدول المتقدمة. الظروف الاقتصادية المواتية التي شهدها العالم في السنين الفارطة ولت وربما لن تعود قبل زمن. لذلك فتحقيق التنمية التي تضمن لنا مستوى المعيشة الذي نحن أهل له سيحتاج منا في المستقبل جهدا وحنكة وتضحيات أكبر.

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

ok c'est bien comme recherche mais tjrs on se sent mal localiser ds les etudes economiques