السبت، 2 أفريل 2011

ما زلت أراهن على الشعب التونسي

حين قررت سنة 2005 أن أنشط بصفة علنية في المعارضة التونسية ضد نظام بن علي وذلك في صلب الحزب الديمقراطي التقدمي لاقيت استغرابا من الكثير من أصدقائي واعتراضا شديدا من كل أفراد عائلتي تقريبا متعللين بسببين. أولا لأني بذلك سأعرض نفسي وربما عائلتي أيضا لخطر كبير قد يهدد مستقبلي بالكامل. ثانيا، لأن هذه التضحية، حسب رأي أغلبهم، سأقدمها من أجل شعب لا يستحقها لأنه خانع وقابل للاستبداد ولأنه خاصة في جله غير واع ولا يفهم معنى الديمقراطية وحتى إن جيء له بها على طبق فإنه لن يحسن استغلالها بل ستعود عليه بالوبال. وفي هذا السياق كثيرا ما سمعت المثال العراقي وكيف أننا نحن العرب لا نفهم إلا بالعصا!

بالنسبة للسبب الأول كانت إجابتي، خاصة لعائلتي، أنني قدر المستطاع وفي حدود مبادئي وقناعاتي لن أعطي للنظام عذرا لإيذائي وفعلا وللأمانة خلال السنين الماضية لم يلحقني أي ضرر عدا زيارة قام بها البوليس لعائلتي في تونس إبان إضراب الجوع الذي خاضه لمدة شهر نجيب الشابي ومية الجريبي من أجل حرية الاجتماع فيما عرف وقتها بمعركة المقرات. سبب الزيارة كان لجمع معلومات عني ولنصيحتي أنه علي أن "نرد بالي". إذن لم أتضرر بتاتا من نشاطي السياسي مقارنة بأبطال الحزب الآخرين وخاصة من الشباب الذين عانوا حتى من السجون والتعذيب.

أما عن السبب الثاني والأهم بالنسبة لي فكنت دائما أرد وبكل حماس أن ذلك غير صحيح فالشعب التونسي له من الثقافة والوعي ما سيمكنه من استيعاب مبادئ الديمقراطية وممارستها بكل اقتدار وحضارة. فقد عشت 12 سنة في دولتين من أعرق الديمقراطيات في العالم واستنتجت أن الفرق بيننا وبينهم هو أن النخبة لديهم ليست سلبية وعازفة عن السياسة بل هي التي تحرك البلاد من خلال النشاط السياسي المباشر في الأحزاب أو في المجتمع المدني في الجمعيات المتعددة تساهم في تأطير الجماهير وتشكيل الرأي العام وتعديل المسار ومراقبة مردود السياسيين ومحاسبتهم.

كلمة نخبة هنا لا تعني من له أكثر مالا أو أرفع شهادات علمية كما يحلو للبعض فهمها بل تعني كل شخص مثقف وله القدرة على التفكير المنظم والمنطقي ويختار أن يفيد مجتمعه بتلك المهارات دون مقابل أي أن يلعب دور المحرك لذلك المجتمع.

إلى جانب النخبة، هناك أيضا الأغلبية من عموم الناس التي تضم أيضا الكثير من المثقفين والواعين الذين اختاروا السلبية وآثروا أن يعيشوا حياتهم لأنفسهم وأن يلعبوا دور التابع أو المشاهد للشأن العام دون أن يساهم فيه. في هذه الدول، كما في تونس، عامة الناس تضم أيضا الجهلة والبسطاء والذين لا يفقهون من الحياة سوى كرة القدم وجلسة خمرية مع الأصدقاء. هؤلاء عكس ما تقوله لنا عقدنا ليسوا بالقليلين عندهم.

إذن طبقة عموم الناس لا تختلف علينا كثيرا أما المشكل فهو أنه ليس لنا نخبة. أغلب من كان يمكن أن يشكل النخبة اختار "السلامة" وانسحب من الحياة العامة وتركها مرتعا لمن دجن كل شيء فيها واستغلها ونهبها.

كان هذا دائما رأيي وكان دائما رهاني على وعي الشعب التونسي وعلى ضرورة استنهاظ همة النخبة، أو من يمكن أن يشكل النخبة، حتى تقوم بواجبها تجاه وطنها لتؤطر عموم الناس لإقناعهم بضرورة الانتقال نحو الديمقراطية لأنها الحل الوحيد لمواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية وللقضاء على الفساد. الحل كان دائما في نظري في الشعب التونسي نفسه وليس مثلا في محاولة استجداء الضغط الخارجي.

وفعلا جاءت أخيرا ثورة الكرامة من الشعب لتحررنا جميعا وتضعنا فجأة أمام مسؤولياتنا التي أهملناها لسنين. هذه الثورة بقدر ما أثبتت، كما توقعت، أن كل الشعب التونسي تقريبا يؤمن بالديمقراطية ومنافعها بقدر ما وضعتنا في موقف حرج لأنه أصبح علينا فجأة أن نمارس هذه الديمقراطية ونتحمل مسؤولية تاريخية في النجاح فيها دون أن نكون جاهزين لذلك تماما.

فحالة التصحر التام التي فرضها النظام السابق جعل جل الشعب التونسي غير ملم بكل خيوط السياسة وأنا لا أناقض نفسي هنا فحين أقول أن التونسيين واعون بالديمقراطية ولهم من الثقافة والذكاء والارث الحضاري ما يمكنهم من ممارسة الديمقراطية والسياسة بكل اقتدار لا يعني أنهم اليوم وفي هذه اللحظة وبعد بضع أسابيع من رحيل الدكتاتورية سيكونون في موقع يمكنهم من فهم السياسة وألاعيبها وذلك لعدة أسباب.

فالتونسيون اليوم لا يعرفون اللذين مارسوا السياسة في العقود الماضية فأشهر السياسيين في تونس هم في الواقع مجهولون لدى الرأي العام. فالتونسي لا يعرفهم ولا يعرف مقاوفهم وتاريخهم واديولوجياتهم وخلفياتهم ولا يعرف من مع من ومن ضد من لا يعرف التحالفات الموجودة أو إن كانت تحالفات اديولوجية أم مصلحية. هل نصدق هذا الشخص لأنه رفع اليوم شعار الثورة وأعلن أنه يتكلم باسمها دون الرجوع إلى تاريخه؟ هل نحن واعوون بالأجندات الخفية التي من المحتمل أن تكون لهذا الطرف أو ذاك وخاصة أن هناك الكثيرين الذين يحاولون اليوم إعادة التموقع وتلميع الصورة؟ هل نساند الشرعية الثورية على حساب الشرعية النضالية مثلا؟ ومن يمكنه أن يحصل على الشرعية الثورية؟ من له حق منحها في غياب شرعية صندوق الاقتراع؟ أسئلة كثيرة لن تجد أجوبة وتتوضح الرؤية إلا إذا انقشع الغبار وقلت الضوضاء حتى تتوفر المعطيات اللازمة للعقل السليم كي يفكر يحلل ويستنتج.

ما عمق المشكل أكثر هو تواصل غياب وسائل الاعلام ذات المصداقية. فالقناة الوطنية مازالت ترزح تحت نفس القيود وسيلزمها أكثر من الإرادة السياسية لترتقي للتطلعات. أما نسمة وحنبعل فمن الواضح أن ما يهمها هو نسبة المشاهدة أو "الأوديمات" أكثر من الموضوعية حتى أتفادى الحديث عن أجندات أخرى سمعنا عنها ولكنها تظل في حدود الإشاعات. فيبدو لي أن قناة تلفزية خاصة تحصلت على تأشيرة عمل في عهد بن علي لا يمكن أن تكون معادية له ومساندة للثورة وبما أن ماليكيها لم يتغيروا فهي إما أنها تنافق اليوم أو كانت تنافق بالأمس وفي كلتا الحالتين لا يمكن الوثوق بها كوسيلة إعلام ستنقل المعلومة والآراء المختلفة بكل حياد. مصدر المعلومة الآخر الذي لعب دورا بارزا في هذه الثورة وما تلاها وهي الانترنات والفايسبوك خاصة، فيها الغث والسمين والإشاعات العفوية، وأحيانا المدبرة، تملأ ذلك الفضاء دون قيود وخاصة لما ينخرط حتى من يحسب على النخبة في نشر تلك الإشاعات والمغالطات دون تدقيق ودون وعي. الشعب التونسي ككل شعوب العالم مهما كان ذكيا لن يكون له مناعة ضد ضغط وسائل الاعلام.

إضافة لذلك فإن الغياب الشبه كلي للجمعيات الحقيقية وذات المصداقية التي ستؤطر الناس وتوجههم لما هو خير لهم ولوطنهم يعد عائقا آخر أمام ممارسة صحية للديمقراطية ولعل غياب التأطير وتشوش البوصلة السياسية لدى المواطنين أدى إلى هذا العدد الكبير من الأحزاب السياسية الجديدة.

هذه اللخبطة وغياب التأطير والمعطيات التي تمكن التونسي من التحليل البناء لواقعه السياسي الجديد هي الخطر الذي يتربص التجربة الديمقراطية الجديدة ويهدد بإخراجها عن مسارها.

الحل الوحيد هو أن تظطلع النخبة بدورها كاملا في هذه المرحلة الدقيقة وتلقي بكل ثقلها للمشاركة الفعالة في تشكيل الواقع الجديد من منظور الواقعية والموضوعية وبعيدا عن التشنج والشعبوية والحماس الفياض الذي قد يحجب الرؤية ويمنع التفكير السليم.

وأنا على يقين أن لنا نخبة قادرة على لعب هذا الدور بكل نجاح لأني مازلت كما كنت أراهن على الشعب التونسي دون سواه.

د فراس جبلون