الأربعاء، 1 أكتوبر 2008

أزمة الغذاء: أسباب العلة ورأي في الدواء

د فراس جبلون

في الوقت الذي كان العالم مشغولا فيه بأزمة الرهن العقاري وتداعياتها، تنبه إلى وجود أزمة أكثر خطورة وهي عودة شبح التضخم وغلاء أسعار المواد الأساسية وخاصة المواد الغذائية التي زادت أسعارها بأكثر من 83 بالمائة في الثلاث سنوات الأخيرة و 50 بالمائة خلال العام الماضي فقط.

هذه الأزمة حدّت من قدرة الدول الغنية على مواجهة تبعات أزمة الرهن العقاري بتخفيض نسبة الفائدة أكثر كما كان يأمل المستثمرون ورجال الأعمال لأن ذلك سيتسبب في رفع نسبة التضخم ويهدد بقاء حكوماتها المنتخبة في السلطة.

لكن الدول الأكثر تضررا من أزمة الغذاء هذه هي مع الأسف الدول الفقيرة والنامية التي شهد البعض منها تحركات شعبية احتجاجية كانت عنيفة في أحيان كثيرة. هذه الاضطرابات طالت دولا عديدة كهايتي والمكسيك والفيلبين وعدة دول عربية كالمغرب ومصر.

أما تونس التي بقيت نسبيا في مأمن من تبعات أزمة الإئتمان العالمية فإنها وجدت نفسها في مرمى نيران أزمة الغذاء مما سبب حالة تململ شعبي تجلى خاصة في اضطرابات الحوض المنجمي والأحداث الأليمة التي جدت في تلك المنطقة الفقيرة من الجنوب التونسي.

ففي بلد يعتمد أهله على الخبز اعتمادا كبيرا لا يمكن إلا أن ترمي هذه الأزمة بظلالها الثقيلة عليه إذ تشير الإحصائيات إلى أن معدل استهلاك الفرد من الحبوب في تونس يصل إلى 220 كلغ سنويا في حين يبلغ المتوسط العالمي 175 كلغ سنويا مما يضعها في صدارة الدول العربية المستهلكة لهذه المادة الأساسية. مع الأسف، فإن حجم الزراعة التونسية لا يلبي حاجيات البلاد الغذائية مما يجبرها على استيراد كميات كبيرة منها من الأسواق العالمية ويجعلها بالتالي عرضة لتقلبات هذه السوق. فعلا، ساهم ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة كبيرة في ارتفاع عجز الميزان التجاري ب 13 بالمائة سنة 2007 وبلغ هذا العجز مليار دينار خلال الأشهر الثلاث الأولى من هذه السنة. كما زاد هذا الغلاء من الضغط على ميزانية الحكومة بسبب تفاقم نفقات الدعم التي قد تصل في 2008 إلى 793 مليون دولار مقابل 578 مليون دولار كانت متوقعة في قانون المالية للعام الجاري.

الحكومة التونسية سارعت بالاعتراف بوجود الأزمة وشددت على أن أسبابا خارجية يصعب التحكم فيها هي السبب في حين حملها الكثيرون المسؤولية كاملة بقطع النظر عن الأسباب الحقيقية لهذا الارتفاع غير المسبوق في الأسعار العالمية للمواد الغذائية.

فما هي أسباب هذه الأزمة بالضبط؟

الأسباب متعددة ومعقدة إذ بعد أكثر من 30 سنة من الاستقرار والانخفاض النسبي، وخاصة في العشر سنوات الأخيرة، ارتفعت فجأة أسعار معظم المواد الغذائية إلى مستويات قياسية.

أحد أهم العوامل وراء هذه الأزمة هو ارتفاع الطلب بسبب ارتفاع عدد السكان في العالم الذي وصل إلى 6 مليارات دون أن يواكبه ارتفاع مماثل في العرض بل إن الانتاج تراجع جراء تلف المحصول في حقول عديدة بسبب الأعاصير التي زادت حدتها ووتيرتها مؤخرا، حسب بعض المختصين، جراء التغيرات المناخية التي تسبب فيها الاحتباس الحراري.

ارتفاع الطلب أيضا تسبب فيه النمو السريع الحاصل في بعض الدول الناشئة كالهند والصين. هذا النمو جعل سكان هذه الدول يعيشون في رفاهية أكبر مكنتهم من زيادة كمية استهلاكهم اليومي من الغذاء وأيضا مكنتهم من تغيير نوعية ما يأكلونه فتحولوا من الحبوب والأرز إلى منتوجات الألبان واللحم الذي يحتاج انتاج كلغ واحد فقط منه إلى أكثر من 8 كلغ من الحبوب.

هذا النمو المسجل في الصين أدى أيضا إلى تزايد حاجتها للطاقة مما ساهم بدرجة كبيرة في ارتفاع أسعار المحروقات. هذه الأسعار القياسية تسببت بدورها في زيادة كلفة انتاج الحبوب وغيرها وأيضا في زيادة كلفة نقلها مما انجر عنه بالضرورة ارتفاع أكبر في أسعار المواد الغذائية.

من ناحية أخرى، فإن الارتفاع الحاد في أسعار النفط، الذي تضاعف ثمنه قرابة الأربع مرات منذ بداية القرن الحالي، دفع بدول عديدة نحو بدائل جديدة تمثلت في الوقود الحيوي. هذا الوقود يستخرج أساسا من مواد غذائية مثل الحبوب وقصب السكر وبالتالي أدى انتاجه إلى تحويل كميات كبيرة من الحبوب وغيرها نحو انتاج الطاقة عوض استعمالها كغذاء.

بالاضافة إلى كل هذا فإن أزمة الرهن العقاري جعلت عديد المستثمرين الباحثين عن ربح أضمن وأرفع يحوّلون أموالهم من أسواق الأسهم والائتمان إلى أسواق المواد الأساسية. بالفعل يعزو العديد من الخبراء الارتفاع في أسعار هذه المواد (البترول والغذاء) إلى المضاربة عليها أكثر منه بسبب خلل في العرض والطلب.

الأسباب إذن عديدة ومتشعبة لكن ليست كل الدول تضررت منها فالدول المنتجة للحبوب كالبرازيل والولايات المتحدة انتفعت لأنها مصدرة للمواد الغذائية. أما الدول الموردة والتي تعتمد على الأسواق العالمية للحصول على الغذاء فإنها تضررت كثيرا من هذه الأزمة.

مع الأسف تونس مرتبطة ارتباطا وثيقا بالأسواق العالمية مما جعلها ترزح كغيرها من الدول، خاصة النامية والفقيرة منها، تحت وطأة هذه الأزمة. ومما زاد من درجة تأثر تونس بهذه الأزمة هو تراجع الدينار التونسي أمام العملات الأساسية حيث تراجعت قيمته مقابل اليورو مثلا ب 32 بالمائة منذ 2002. هذا التقهقر يتسبب تلقائيا في غلاء أسعار السلع المستوردة حتى وإن بقيت أسعارها في السوق العالمية دون تغيير.

من الواضح إذن أن غلاء أسعار المواد الغذائية يعود إلى أسباب خارجية لا يمكن لأي دولة التحكم فيها. لكن ذلك لا يعفي أي حكومة من مسؤوليتها كاملة. فبريطانيا مثلا حققت في العشر سنوات الأخيرة نجاحا اقتصاديا باهرا على يدي وزير ماليتها ورئيس حكومتها الحالي غوردن براون ولكن ذلك لم يشفع له أمام شعبه الذي عاقب حزب العمال على مردوده الاقتصادي بالإطاحة برئيس بلدية لندن الذي بقي في منصبه 8 سنوات كاملة وتدل كل استطلاعات الرأي أن المحافظين سيفوزون قطعا في الانتخابات القادمة ليطيحوا ببراون نفسه.

ورغم ذلك فإن آخر ما تحتاجه تونس الآن هو توجيه أصابع الاتهام لهذه الجهة أو تلك بل ما تحتاجه هو أن يتكاتف الجميع لمواجهة الأزمة صفا واحدا وذلك بتنقية الأجواء المحتقنة واستعمال قدرات البلاد كاملة عبر حوار مفتوح وصريح لتشخيص مواطن الداء والعمل معا على إيجاد وتطبيق الدواء.

التدابير العاجلة التي يجب اتخاذها يجب أن تهدف لمحاولة تقليل وطأة هذه الأزمة على ضعاف الحال بتوزيع مساعدات لمن يحتاجها وبزيادة أجور العمال والموظفين بما يسمح لهم بمواجهة هذه الطفرة في الأسعار وربما أيضا بتخفيض الرسوم الجمركية على بعض المواد الغذائية كما فعل المغرب.

أما لضمان أممنا الغذائي على المدى الطويل فمن الضروري التقليل من درجة اعتمادنا على الأسواق العالمية وذلك بزيادة الانتاج الزراعي المحلي عبر استعمال تقنيات زراعية حديثة وبتقييم الاستراتيجية الزراعية للوقاية من تداعيات الجفاف الذي يضرب البلاد بصفة دورية.

مع ذلك فلا يمكن لتونس أن توقف كليا اعتمادها على الأسواق العالمية لضمان امداداتها من المواد الغذائية وبالتالي يجب عليها أيضا تطوير قدراتها الفنية على استخدام الأدوات المالية الحديثة كالعقود الآجلة وغيرها بغية مساعدتها على الوفاء بحاجياتها الغذائية والتحوط ضد مخاطر تقلبات أسواق المواد الأساسية في العالم.

من الضروري أيضا مراجعة سياسة الدعم للسلع الاستهلاكية الأساسية حتى تصبح موجهة وأكثر نجاعة وفاعلية بحيث يستفيد منها فقط من يحتاجها دون أن تثقل كاهل خزانة الدولة.

ختاما، هذه الأزمة جاءت لتذكرنا أننا مازلنا دولة نامية يعاني شعبها كلما ارتفعت أسعار المواد الغذائية لأنها تمثل نسبة عالية مما ينفقه التونسي عموما مقارنة بسكان الدول المتقدمة. الظروف الاقتصادية المواتية التي شهدها العالم في السنين الفارطة ولت وربما لن تعود قبل زمن. لذلك فتحقيق التنمية التي تضمن لنا مستوى المعيشة الذي نحن أهل له سيحتاج منا في المستقبل جهدا وحنكة وتضحيات أكبر.

الأحد، 27 جويلية 2008

أسواق المال وأسواق الخضار


د فراس جبلون

ما زالت الأسواق المالية العالمية تعيش على وقع أزمة الرهن العقاري وتداعياتها المدمرة على معظم البنوك الاستثمارية واقتصاد أغلب الدول، المتقدمة وحتى النامية منها. ـ

عديد الخبراء يرجعون مسؤولية هذه الأزمة إلى الأدوات المالية الجديدة التي وقع تداولها بكثافة كبيرة في السنوات الأخيرة والتي تعرف بالأوراق المالية المدعومة بأصول وخاصة أداة تسمى "التزامات الدين المضمونة". ـ
(Collateralized Debt Obligations – CDO). ـ

هذه الأداة مكنت البنوك من تجميع قروض العقارات عالية المخاطر مع بعضها البعض في حزمة واحدة وأضافت إليها نسبة قليلة من القروض المضمونة بحيث تمكنت من تلميع الحزمة ككل واستصدار تقييم لها من وكالات التقييم المختصة على أساس أنها ذات جودة عالية، أي، حصلت على أعلى درجة من فئة أأأ (AAA). هذا التقييم جعل كل المستثمرين يتهافتون على هذه الأدوات الجديدة على أساس أنها ذات ربح مضمون فصارت في مدة قصيرة ذات سيولة فائقة تباع وتشترى بسهولة كبيرة وكأن المستثمرين نسوا أو تناسوا المخاطر الكبيرة الكامنة فيها. ـ

لنفهم هذه الأدوات أكثر يمكن أن نقارن أسواق المال بأسواق الخضار حين يشح العرض بسبب قلة المنتوج وفجأة يبدأ أحد التجار في بيع خضار في غاية الجودة في سلال في غاية الأناقة من محله الذي جهزه بأحدث التجهيزات وأضاف إلى كل ذلك سعرا أسال لعاب كل من في السوق فتهافت عليه الجميع وتجمهروا كل يبغي حصته من هذه السلعة الفريدة والرخيصة دون أن يعير اهتماما لشرط يقول أن كل سلة تباع كلها حزمة واحدة ودون تقليب: "خذ الكل أو اترك الكل". و بما أنه في سوق الخضار كما في سوق المال يتبع الفرد ما تفعله الجماعة دون أن يضيع وقتا في طرح أسئلة قد تضيع عليه وقتا ثمينا فقد قرر الجميع "أخذ الكل" قبل أن ينفد. مع الوقت تكونت سوق موازية وبدأ الناس يتاجرون في هذه السلال و يبيعونها لمن لا يملك العضلات المفتولة ليحصل على نصيبه من المصدر الأصلي. فبدأ سماسرة السوق يبيعون السلال أعلى من سعرها الأصلي لعامة الناس الذين أسال لعابهم ما يحدث من نشاط وحركية وصراخ وهستيريا الربح الذي طال الجميع. ـ

وبالطبع كان هناك سلال أفضل من الأخرى فارتفع سعرها وبالتالي هامش ربحها فأصبح السماسرة يبيعونها لبعضهم البعض فصار بعضهم يملك منها مخزونا عظيما ينوي بيعه لاحقا بأسعار أعلى. هذه الهستيريا جعلت أيضا الكثيرين يهرعون نحو التداين لتوفير رأس المال الذي يمكنهم من الاستثمار في هذه السلال السحرية ذات السيولة العالية التي يمكن بيعها في أي لحظة بمجرد عرضها في السوق، أي، لن يكون هناك مشكل في استرجاع المال وتوفير السيولة اللازمة متى كان ذلك ضروريا. كان الجميع يتداين من الجميع: من البنوك من الحكومة من السماسرة (فيما بينهم) وأيضا من عامة الناس. لم يسأل أحد من أين تأتي كل هذه السلال ولم يكلف أحد نفسه النظر وراء المحل الأصلي الذي يطرحها في السوق ليرى الشاحنات وهي تفرغ الخضار العفنة لملء السلال بها قبل أن توضع فوقها طبقة رقيقة من الخضار الجيدة وتغلف السلة في الأخير بغطاء بلاستيكي شفاف من أعلى طراز. ـ

مع مرور الوقت بدأت رائحة الخضار العفنة تفوح في السوق فبدأت الريبة تخامر المسثمرين واكتشفوا تدريجيا أن سلالهم في الواقع مجرد كومة من الخضار العفنة لا تساوي شيئا فهوت فجأة قيمتها ولم يعد هناك من يريد شراءها فتكبد الكثيرون خسائر فادحة وأعلن البعض إفلاسه خاصة حين طالبت البنوك والمقرضون الآخرون باسترجاع أموالهم. ما حدث أيضا هو أنه لا أحد كان يعرف من من السماسرة الكبار له مخزون أكبر من غيره ومن من البنوك أقرض هؤلاء السماسرة خاصة أن نسبة الدين كانت أضعاف أضعاف رأس المال الأصلي والكل يعرف ذلك. لذا أصبح السماسرة والبنوك يخشون التعامل مع بعضهم البعض فأصبح التداين صعبا ومكلفا حتى لتمويل مشاريع أخرى لا علاقة لها بسوق الخضار خاصة أن أغلب السماسرة كانت لهم نشاطات في أسواق أخرى. وبالتالي طالت الأزمة سوق السمك المجاور وسوق الماشية وسوق الملابس في الطرف الآخر للمدينة ولم يسلم أحد من لعنة الخضار الفاسدة. ـ

هذا بالفعل تشبيه مبسط لما يحدث الآن في أسواق الرهن العقاري الأمريكية. تهافت الجميع على الأدوات المالية الجديدة بسبب العائد المرتفع الذي توفره فأصبح الجميع يريد شراءها دون أن يسأل أسئلة كثيرة حول ماهيتها الحقيقية أو يقيم نسبة المخاطرة تقييما صحيحا وخاصة أن طريقة التقييم تعتمد على برمجيات كمبيوتر تقدر سعر تلك العقود على أساس نظريات رياضية مازالت تعتبر بدائية مقارنة مع تلك المستعملة في علم الفضاء مثلا وفي خطواتها الأولى مقارنة حتى مع تقنيات مستعملة في مجالات أخرى في عالم المال. هذا الخطأ في التقييم بالإضافة إلى ارتفاع الطلب أدى إلى ارتفاع ثمنها بصورة مهولة أخرجتها تدريجيا عن نطاق السيطرة وعجز بالتالي المضاربون عليها عن تصميم الحافظة الاستثمارية المثالية التي تقي من المخاطر الكامنة فيها. هذه المخاطر تسربت تدريجيا مع الوقت من عالم الفرضيات إلى عالم المحسوسات والواقع المعاش. ـ

السهولة التي أصبحت عليها البنوك قادرة على تمويل القروض التي تصدرها دفعها لاصدار قروض أكثر وبسعر فائدة أقل وبمعايير بسيطة وميسرة مكنت أي شخص من الاقتراض لشراء المنازل والعقارات التي يريدها بقطع النظر على قدرته على تسديد تلك القروض ودون حتى دفع مبلغ مقدم. ارتفاع الطلب هذا على شراء العقارات انجر عنه بطبيعة الحال ارتفاع في أسعارها وبالتالي ارتفاع في قيمة القروض اللازمة لتمويلها وأيضا قيمة العقود المالية المشتقة منها. هذه الحلقة المفرغة تسببت في تكوين فقاعة ضخمة أكبر حتى من فقاعة الانترنات. هذه الفقاعة هي فقاعة القروض العقارية عالية المخاطرة أي أن الحل الذي استلهمته البنوك الكبرى في أعقاب الأزمة الفارطة تحول هو نفسه إلى مشكل. ـ

الاثنين، 31 مارس 2008

ماذا يحدث في أسواق المال ولماذا علينا كتونسيين أن نهتم؟

د فراس جبلون

يواجه العالم اليوم بوادر تباطؤ اقتصادي بسبب أزمة حادة في أسواق المال الأمريكية والعالمية عموما وعلى حد تعبير ألان غرينسبان، مدير البنك المركزي الأمريكي السابق، فإن ما يحدث الآن في الولايات المتحدة هو أكبر ركود يشهده الاقتصاد الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية. في الواقع كل القصة بدأت فعليا من أمريكا في أوت الماضي مع ما صار يعرف بأزمة الرهن العقاري العالي المخاطر. فما هي هذه الأزمة بالضبط وماهي تداعياتها؟ ولماذا علينا نحن كتونسيين أن نعيرها اهتمامنا؟

مع بداية هذا القرن عرفت أسواق المال في أمريكا وغيرها وعلى إثر انهيار أسهم الشركات العاملة في مجال الانترنات أزمة حادة كانت تنبئ بحالة ركود شديدة وخاصة أنها تزامنت تقريبا مع هجمات 11 سبتمبر 2001 التي أثرت بشكل كبير على أداء الاقتصاد الأمريكي. تلك الأزمة سرعان ما وقع تجاوزها لأن البنوك الأمريكية عثرت على وجهة جديدة لضخ أموالها واستثمارها بكيفية حققت لها أرباحا قياسية. هذه الوجهة هي سوق الرهن العقاري. ـ

إذ بدأت البنوك الأمريكية في إصدار قروض لاستثمارها في قطاع العقارات وأدى تنافسها إلى تسهيل معايير الإقراض بحيث أصبح يمكن لأي شخص أن يتحصل على قرض لشراء منزل أحلامه دون أن يكون له بالضرورة ما يثبت أنه قادر على سداد هذا الدين كعمل يوفر له دخلا قارا أو سجل ائتمان مقبول لدى البنوك المقرضة. الغريب هنا هو لماذا تقرض البنوك أناسا تعرف أنهم سيعجزون عن سداد تلك الديون؟

في الواقع هناك عدة عوامل جعلت ذلك ممكنا. السبب الأهم هو أن هذه البنوك لم تكن تهتم كثيرا بما سيحدث لتلك القروض لأنها كانت تبيعها مباشرة لمستثمرين آخرين ممررة بذلك درجة الانكشاف على تلك المخاطر إليهم ومحققة في الآن نفسه ربحا من تلك العملية. هذا الطرف الثالث هم بنوك وصناديق استثمارية ذات سمعة سمحت لها بإقناع مستثمرين آخرين من عامة الجمهور من أشخاص ومؤسسات صغرى وغيرها بالاستثمار في تلك القروض لتحقيق ربح "مضمون". لكن لماذا يقبل المستثمرون الذين يبحثون عن الربح المضمون بوضع مدخراتهم في استثمارات عالية الخطورة؟

السر وراء ذلك هو أن المهندسين الماليين في البنوك اخترعوا أدوات مالية جديدة تعرف بالأوراق المالية المدعومة بأصول وكان أفضل ما جادت به قريحتهم أداة تسمى "التزامات الدين المضمونة". هذه الأداة مكنت البنوك من تجميع القروض عالية المخاطر مع بعضها البعض في حزمة واحدة وأضافت إليها نسبة قليلة من القروض المضمونة بحيث تمكنت من تلميع الحزمة ككل واستصدار تقييم لها من وكالات التقييم المختصة على أساس أنها ذات جودة عالية. هذه كانت اللمسة السحرية التي جعلت المستثمرين يتهافتون على هذه الأدوات الجديدة التي صارت في مدة قصيرة عروس أسواق الائتمان العالمية خاصة بعد الأرباح العالية التي حققتها في البداية. وتجاوزت الظاهرة حدود الولايات المتحدة فصرت تجد عقودا في التزامات الدين المضمونة بعقارات موجودة في الولايات المتحدة مسجلة في دفاتر حسابات بنوك وشركات وصناديق تأمين وتقاعد إلخ في كامل أنحاء المعمورة. ـ

لماذا انهارت أسواق الائتمان؟

خلال السنوات الماضية حدثت تغيرات في المشهد الاقتصادي العالمي ساهمت بكيفية أو بأخرى في انهيار أسواق الائتمان بالطريقة التي حدثت، إذ مثل الصعود السريع للتنين الصيني على الساحة الاقتصادية العالمية الحدث الأبرز في بداية هذا القرن إذ شكل استهلاكه وحاجته المتنامية للطاقة وللنفط بالخصوص السبب الأهم وراء ارتفاع سعره المشط في الأسواق العالمية في السنوات الأخيرة. وشكلت الصين أيضا منافسا عنيدا للولايات المتحدة على الساحة الدولية دفع هذه الأخيرة إلى عدم الاكتراث للتراجع المطرد لقيمة عملتها أمام العملات الرئيسية وذلك في محاولة لدعم القدرة التنافسية لصادراتها مقارنة بالأسعار الصينية البخسة رغم التذمر المعلن لعديد الدول من هذه الحالة خاصة تلك التي ربطت عملتها بالدولار. ـ

انخفاض قيمة الدولار أيضا يندرج ضمن سياسة نقدية اتبعتها الإدارة الأمريكية الحالية في محاولة للتصدي للعجز المتنامي في ميزانها التجاري وحسابها الجاري خاصة مع تنامي الانفاق على الحرب في العراق والمقدر حسب بعض المحللين أن يصل إلى حدود الثلاثة تريليون دولار مع نهاية سنة 2009 ما يجعل الدين الأمريكي يصل إلى حدود 10 تريليون دولار في تلك السنة مقارنة بـ 5 تريليون سنة 2000. تراجع الدولار خلق حالة عدم ثقة في العملة الخضراء دفعت بعديد الدول لمحاولة فك ارتباط عملتها بها ودعم موقف المطالبين بالتوقف عن تسعير النفط بالدولار واعتماد سلة عملات كبديل عنه. ضعف الدولار أيضا تزامن مع انتعاشة لليورو شجعت عديد الاستثمارات الخارجية المباشرة على التوجه نحو دول الاتحاد الأوروبي بدل الولايات المتحدة وتحول استثمارات كبرى من الدولار لليورو. ـ

كل هذه العوامل وغيرها تضافرت لتساهم في تأزيم الوضع الاقتصادي في أمريكا فارتفعت نسبة التضخم وفاقت نسبة البطالة المعدلات المنخفضة عادة فتردت القدرة الشرائية للمواطنين وخاصة الفئات الضعيفة منهم مما أدى إلى عجز أعداد غير مسبوقة من الناس عن سداد أقساط دينهم خاصة أن القروض التي استلموها صممت بحيث يكون سعر الفائدة ضعيفا ومستقرا لسنتين أو ثلاثة ثم يرتفع فجأة لنسب يعجزون معها عن السداد وبالتالي تضطر البنوك لانتزاع منازلهم منهم وبيعها في المزاد العلني بسعر أقل بكثير من قيمة القرض الأصلي.هذا الوضع أدى لانهيار السندات والأوراق المالية المضمونة بتلك العقارات وخلق هذه الأزمة الحادة في سوق الرهن العقاري العالي المخاطر التي مازلنا نعيش على وقعها والتي يتوقع الكثيرون أن تستمر ربما لسنة أخرى على الأقل إلى أن تستقر أسعار العقارات في حدود قيمتها الحقيقية. ـ

كان لهذه الأزمة تداعيات مختلفة بعضها مباشر مثل انهيار "بير ستارن" خامس أكبر مؤسسة مالية أمريكية، وأخرى غير مباشرة تمثلت في تكرار حالات الفساد المالي والنصب في عديد البنوك الأمريكية والأوروبية في محاولة لتغطية الخسائر الكبرى التي تكبدها تجار المال لعل أبرزها فضيحة البنك الفرنسي "سوسيتي جنرال" الذي تكبد خسائر قدرت بحوالي 5 مليار يورو تسبب فيها أحد موظفيه الصغار، مما طرح عدة أسئلة حول مدى نجاعة أنظمة المراقبة الداخلية لدى بعض المصارف. كما بدأ مكتب التحقيقات الفدرالي " اف بي آي" يحقق في أزمة الرهن العقاري وفي حالات احتيال محاسبية قد تعطي بعدا جنائيا لما يحدث. ـ

ماذا يهمنا نحن كتونسيين؟

إلى جانب أن القصة مثيرة ومشوقة فإن للأمر أبعادا كثيرة أخرى تجعلنا وبلدنا معنيين بهذه الأزمة. ففي عصر العولمة أصبح لما يحدث في غرب الأرض تداعيات مباشرة في شرقها وبسرعة عجيبة. وبما أن الاقتصاد التونسي هو اقتصاد مفتوح نسبيا ومرتبط بالأسواق العالمية بدرجة عالية فإن تونس ستضرر (أو تنتفع) لا محالة من هذه الأزمة. ـ

رغم أنه يمكن القول أن درجة انكشاف تونس المباشر على هذه الأزمة طفيفة أومنعدمة فإن تقديم تقويم دقيق لدرجة هذا الانكشاف يبقى صعبا في ظل شحة الأرقام المتوافرة وانعدام الشفافية اللازمة لمعرفة مدى جاهزية اقتصادنا للهزات الخارجية. ورغم ذلك تبقى هناك قراءة عامة للوضع نستطيع من خلالها فهم مدى تأثرنا بهذه الأزمة. ـ

فإلى جانب ارتفاع سعر البترول وتأثيره المباشر على ميزانية الدولة فإن فقدان المستثمرين للثقة في سوق الأسهم و سوق الإئتمان دفعهم إلى الاستثمار في المواد الأساسية من بترول وذهب وأيضا من قمح وأرز وغيره من المواد الاستهلاكية الضرورية، مما حمل الكثير من المحللين على تفسير الارتفاع المطرد في أسعار هذه المواد بالمضاربة عليها أكثر منه بارتفاع الطلب. هذا الارتفاع في الأسعار يمكن أن يشعر به كل شخص، فقيرا كان أم غنيا، وهو ظاهرة تشمل جل الدول في العالم تقريبا. ولم يحد نسبيا من ارتفاع درجة التضخم جراء ذلك سوى انخفاض أسعار سلع أخرى تستورد خاصة من الصين. ـ

و ستؤثر حالة الركود التي قد تضرب الإقتصاد الأمريكي بالضرورة على الاقتصاد الأوروبي، أكبر شريك لتونس. وبما أن اقتصادنا يعتمد أساسا على التصدير إلى هذه الدول فإن تراجع اقتصادها قد يحد من إقبالها على الاستيراد منا وبالتالي سيؤثر على ميزاننا التجاري الذي يشكو من عجز مزمن أصلا. ـ

عمود آخر من أعمدة الإقتصاد التونسي وهو السياحة التي قد تشهد تراجعا إذا رأى السائح الأوروبي أن عليه أن يضغط على ميزانيته العائلية وهي سياسة تقشفية تفرضها عليه حالة التوجس الراهنة وخاصة أن السياح الذين تعتمد عليهم تونس، عكس دول أخرى كالمغرب، هم من الطبقة الوسطى الذين تعودوا على تمويل إجازاتهم الصيفية بقروض يسددونها على طول السنة. فإذا سلمنا أن معايير الحصول على تلك القروض صارت أكثر صرامة لاستنتجنا أن عدد هؤلاء السياح سينخفض بالضرورة في هذا الموسم السياحي. و تتوقف درجة هذا التراجع على مدى تحسن الوضع الاقتصادي العالمي في الأشهر القادمة ومع مرونة وكيفية تعامل العاملين في هذا القطاع مع هذه التطورات وخاصة مع تداعيات خطف السائحين النمساويين في المدة الأخيرة. ـ

في مقابل كل هذه المخاطر كان لارتفاع سعر البترول تأثير إيجابي على دول الخليج البترولية التي أصبحت لها سيولة كبيرة تود استثمارها في مشاريع تضمن لها الرخاء حتى بعد نفاد النفط من جوف أراضيها. مثلا لعبت صناديق الثروة السيادية لهذه الدول دورا أساسيا في توفير السيولة للبنوك المنكوبة بأزمة الائتمان بأن وفرت لها نحو 40 مليار دولار من رؤوس الأموال الجديدة. أزمة الرهن العقاري وبوادر تراجع الاقتصاد الأمريكي والخوف من الاستثمار في العقارات الأمريكية بالذات جعل هذه الدول تجنح إلى توجيه استثماراتها نحو وجهات جديدة في دول الاتحاد الأوروبي بالأساس ولكن أيضا في دول أخرى كالدول العربية ومنها بالطبع تونس. بالفعل فإن ما نشهده اليوم من تدفق ملحوظ للاستثمارات الخليجية في قطاع العقارات بالخصوص هو جزء من سياسة شاملة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالوضع الاقتصادي العالمي. من هذه الناحية إذن استفادت تونس من الأزمة الراهنة وتحصلت على استثمارات كبرى لم تعرفها من قبل قد تحدث تغييرا جذريا في الوضع الاقتصادي للبلاد. ـ


قصارى القول أنه إذا كانت لأزمة الرهن العقاري تداعيات اقتصادية واجتماعية خطرة وجب التحوط منها والتقليل من درجة ضررها، فإن لها أيضا جانبا إيجابيا يجب العمل على مزيد الانتفاع الأقصى منه من خلال العمل والتفاعل معه وليس بمجرد الجلوس وانتظار ما ينوبنا تلقائيا من قوة الدفع الذاتية لتلك الاستثمارات القادمة نحونا. ـ