الاثنين، 31 مارس 2008

ماذا يحدث في أسواق المال ولماذا علينا كتونسيين أن نهتم؟

د فراس جبلون

يواجه العالم اليوم بوادر تباطؤ اقتصادي بسبب أزمة حادة في أسواق المال الأمريكية والعالمية عموما وعلى حد تعبير ألان غرينسبان، مدير البنك المركزي الأمريكي السابق، فإن ما يحدث الآن في الولايات المتحدة هو أكبر ركود يشهده الاقتصاد الأمريكي منذ الحرب العالمية الثانية. في الواقع كل القصة بدأت فعليا من أمريكا في أوت الماضي مع ما صار يعرف بأزمة الرهن العقاري العالي المخاطر. فما هي هذه الأزمة بالضبط وماهي تداعياتها؟ ولماذا علينا نحن كتونسيين أن نعيرها اهتمامنا؟

مع بداية هذا القرن عرفت أسواق المال في أمريكا وغيرها وعلى إثر انهيار أسهم الشركات العاملة في مجال الانترنات أزمة حادة كانت تنبئ بحالة ركود شديدة وخاصة أنها تزامنت تقريبا مع هجمات 11 سبتمبر 2001 التي أثرت بشكل كبير على أداء الاقتصاد الأمريكي. تلك الأزمة سرعان ما وقع تجاوزها لأن البنوك الأمريكية عثرت على وجهة جديدة لضخ أموالها واستثمارها بكيفية حققت لها أرباحا قياسية. هذه الوجهة هي سوق الرهن العقاري. ـ

إذ بدأت البنوك الأمريكية في إصدار قروض لاستثمارها في قطاع العقارات وأدى تنافسها إلى تسهيل معايير الإقراض بحيث أصبح يمكن لأي شخص أن يتحصل على قرض لشراء منزل أحلامه دون أن يكون له بالضرورة ما يثبت أنه قادر على سداد هذا الدين كعمل يوفر له دخلا قارا أو سجل ائتمان مقبول لدى البنوك المقرضة. الغريب هنا هو لماذا تقرض البنوك أناسا تعرف أنهم سيعجزون عن سداد تلك الديون؟

في الواقع هناك عدة عوامل جعلت ذلك ممكنا. السبب الأهم هو أن هذه البنوك لم تكن تهتم كثيرا بما سيحدث لتلك القروض لأنها كانت تبيعها مباشرة لمستثمرين آخرين ممررة بذلك درجة الانكشاف على تلك المخاطر إليهم ومحققة في الآن نفسه ربحا من تلك العملية. هذا الطرف الثالث هم بنوك وصناديق استثمارية ذات سمعة سمحت لها بإقناع مستثمرين آخرين من عامة الجمهور من أشخاص ومؤسسات صغرى وغيرها بالاستثمار في تلك القروض لتحقيق ربح "مضمون". لكن لماذا يقبل المستثمرون الذين يبحثون عن الربح المضمون بوضع مدخراتهم في استثمارات عالية الخطورة؟

السر وراء ذلك هو أن المهندسين الماليين في البنوك اخترعوا أدوات مالية جديدة تعرف بالأوراق المالية المدعومة بأصول وكان أفضل ما جادت به قريحتهم أداة تسمى "التزامات الدين المضمونة". هذه الأداة مكنت البنوك من تجميع القروض عالية المخاطر مع بعضها البعض في حزمة واحدة وأضافت إليها نسبة قليلة من القروض المضمونة بحيث تمكنت من تلميع الحزمة ككل واستصدار تقييم لها من وكالات التقييم المختصة على أساس أنها ذات جودة عالية. هذه كانت اللمسة السحرية التي جعلت المستثمرين يتهافتون على هذه الأدوات الجديدة التي صارت في مدة قصيرة عروس أسواق الائتمان العالمية خاصة بعد الأرباح العالية التي حققتها في البداية. وتجاوزت الظاهرة حدود الولايات المتحدة فصرت تجد عقودا في التزامات الدين المضمونة بعقارات موجودة في الولايات المتحدة مسجلة في دفاتر حسابات بنوك وشركات وصناديق تأمين وتقاعد إلخ في كامل أنحاء المعمورة. ـ

لماذا انهارت أسواق الائتمان؟

خلال السنوات الماضية حدثت تغيرات في المشهد الاقتصادي العالمي ساهمت بكيفية أو بأخرى في انهيار أسواق الائتمان بالطريقة التي حدثت، إذ مثل الصعود السريع للتنين الصيني على الساحة الاقتصادية العالمية الحدث الأبرز في بداية هذا القرن إذ شكل استهلاكه وحاجته المتنامية للطاقة وللنفط بالخصوص السبب الأهم وراء ارتفاع سعره المشط في الأسواق العالمية في السنوات الأخيرة. وشكلت الصين أيضا منافسا عنيدا للولايات المتحدة على الساحة الدولية دفع هذه الأخيرة إلى عدم الاكتراث للتراجع المطرد لقيمة عملتها أمام العملات الرئيسية وذلك في محاولة لدعم القدرة التنافسية لصادراتها مقارنة بالأسعار الصينية البخسة رغم التذمر المعلن لعديد الدول من هذه الحالة خاصة تلك التي ربطت عملتها بالدولار. ـ

انخفاض قيمة الدولار أيضا يندرج ضمن سياسة نقدية اتبعتها الإدارة الأمريكية الحالية في محاولة للتصدي للعجز المتنامي في ميزانها التجاري وحسابها الجاري خاصة مع تنامي الانفاق على الحرب في العراق والمقدر حسب بعض المحللين أن يصل إلى حدود الثلاثة تريليون دولار مع نهاية سنة 2009 ما يجعل الدين الأمريكي يصل إلى حدود 10 تريليون دولار في تلك السنة مقارنة بـ 5 تريليون سنة 2000. تراجع الدولار خلق حالة عدم ثقة في العملة الخضراء دفعت بعديد الدول لمحاولة فك ارتباط عملتها بها ودعم موقف المطالبين بالتوقف عن تسعير النفط بالدولار واعتماد سلة عملات كبديل عنه. ضعف الدولار أيضا تزامن مع انتعاشة لليورو شجعت عديد الاستثمارات الخارجية المباشرة على التوجه نحو دول الاتحاد الأوروبي بدل الولايات المتحدة وتحول استثمارات كبرى من الدولار لليورو. ـ

كل هذه العوامل وغيرها تضافرت لتساهم في تأزيم الوضع الاقتصادي في أمريكا فارتفعت نسبة التضخم وفاقت نسبة البطالة المعدلات المنخفضة عادة فتردت القدرة الشرائية للمواطنين وخاصة الفئات الضعيفة منهم مما أدى إلى عجز أعداد غير مسبوقة من الناس عن سداد أقساط دينهم خاصة أن القروض التي استلموها صممت بحيث يكون سعر الفائدة ضعيفا ومستقرا لسنتين أو ثلاثة ثم يرتفع فجأة لنسب يعجزون معها عن السداد وبالتالي تضطر البنوك لانتزاع منازلهم منهم وبيعها في المزاد العلني بسعر أقل بكثير من قيمة القرض الأصلي.هذا الوضع أدى لانهيار السندات والأوراق المالية المضمونة بتلك العقارات وخلق هذه الأزمة الحادة في سوق الرهن العقاري العالي المخاطر التي مازلنا نعيش على وقعها والتي يتوقع الكثيرون أن تستمر ربما لسنة أخرى على الأقل إلى أن تستقر أسعار العقارات في حدود قيمتها الحقيقية. ـ

كان لهذه الأزمة تداعيات مختلفة بعضها مباشر مثل انهيار "بير ستارن" خامس أكبر مؤسسة مالية أمريكية، وأخرى غير مباشرة تمثلت في تكرار حالات الفساد المالي والنصب في عديد البنوك الأمريكية والأوروبية في محاولة لتغطية الخسائر الكبرى التي تكبدها تجار المال لعل أبرزها فضيحة البنك الفرنسي "سوسيتي جنرال" الذي تكبد خسائر قدرت بحوالي 5 مليار يورو تسبب فيها أحد موظفيه الصغار، مما طرح عدة أسئلة حول مدى نجاعة أنظمة المراقبة الداخلية لدى بعض المصارف. كما بدأ مكتب التحقيقات الفدرالي " اف بي آي" يحقق في أزمة الرهن العقاري وفي حالات احتيال محاسبية قد تعطي بعدا جنائيا لما يحدث. ـ

ماذا يهمنا نحن كتونسيين؟

إلى جانب أن القصة مثيرة ومشوقة فإن للأمر أبعادا كثيرة أخرى تجعلنا وبلدنا معنيين بهذه الأزمة. ففي عصر العولمة أصبح لما يحدث في غرب الأرض تداعيات مباشرة في شرقها وبسرعة عجيبة. وبما أن الاقتصاد التونسي هو اقتصاد مفتوح نسبيا ومرتبط بالأسواق العالمية بدرجة عالية فإن تونس ستضرر (أو تنتفع) لا محالة من هذه الأزمة. ـ

رغم أنه يمكن القول أن درجة انكشاف تونس المباشر على هذه الأزمة طفيفة أومنعدمة فإن تقديم تقويم دقيق لدرجة هذا الانكشاف يبقى صعبا في ظل شحة الأرقام المتوافرة وانعدام الشفافية اللازمة لمعرفة مدى جاهزية اقتصادنا للهزات الخارجية. ورغم ذلك تبقى هناك قراءة عامة للوضع نستطيع من خلالها فهم مدى تأثرنا بهذه الأزمة. ـ

فإلى جانب ارتفاع سعر البترول وتأثيره المباشر على ميزانية الدولة فإن فقدان المستثمرين للثقة في سوق الأسهم و سوق الإئتمان دفعهم إلى الاستثمار في المواد الأساسية من بترول وذهب وأيضا من قمح وأرز وغيره من المواد الاستهلاكية الضرورية، مما حمل الكثير من المحللين على تفسير الارتفاع المطرد في أسعار هذه المواد بالمضاربة عليها أكثر منه بارتفاع الطلب. هذا الارتفاع في الأسعار يمكن أن يشعر به كل شخص، فقيرا كان أم غنيا، وهو ظاهرة تشمل جل الدول في العالم تقريبا. ولم يحد نسبيا من ارتفاع درجة التضخم جراء ذلك سوى انخفاض أسعار سلع أخرى تستورد خاصة من الصين. ـ

و ستؤثر حالة الركود التي قد تضرب الإقتصاد الأمريكي بالضرورة على الاقتصاد الأوروبي، أكبر شريك لتونس. وبما أن اقتصادنا يعتمد أساسا على التصدير إلى هذه الدول فإن تراجع اقتصادها قد يحد من إقبالها على الاستيراد منا وبالتالي سيؤثر على ميزاننا التجاري الذي يشكو من عجز مزمن أصلا. ـ

عمود آخر من أعمدة الإقتصاد التونسي وهو السياحة التي قد تشهد تراجعا إذا رأى السائح الأوروبي أن عليه أن يضغط على ميزانيته العائلية وهي سياسة تقشفية تفرضها عليه حالة التوجس الراهنة وخاصة أن السياح الذين تعتمد عليهم تونس، عكس دول أخرى كالمغرب، هم من الطبقة الوسطى الذين تعودوا على تمويل إجازاتهم الصيفية بقروض يسددونها على طول السنة. فإذا سلمنا أن معايير الحصول على تلك القروض صارت أكثر صرامة لاستنتجنا أن عدد هؤلاء السياح سينخفض بالضرورة في هذا الموسم السياحي. و تتوقف درجة هذا التراجع على مدى تحسن الوضع الاقتصادي العالمي في الأشهر القادمة ومع مرونة وكيفية تعامل العاملين في هذا القطاع مع هذه التطورات وخاصة مع تداعيات خطف السائحين النمساويين في المدة الأخيرة. ـ

في مقابل كل هذه المخاطر كان لارتفاع سعر البترول تأثير إيجابي على دول الخليج البترولية التي أصبحت لها سيولة كبيرة تود استثمارها في مشاريع تضمن لها الرخاء حتى بعد نفاد النفط من جوف أراضيها. مثلا لعبت صناديق الثروة السيادية لهذه الدول دورا أساسيا في توفير السيولة للبنوك المنكوبة بأزمة الائتمان بأن وفرت لها نحو 40 مليار دولار من رؤوس الأموال الجديدة. أزمة الرهن العقاري وبوادر تراجع الاقتصاد الأمريكي والخوف من الاستثمار في العقارات الأمريكية بالذات جعل هذه الدول تجنح إلى توجيه استثماراتها نحو وجهات جديدة في دول الاتحاد الأوروبي بالأساس ولكن أيضا في دول أخرى كالدول العربية ومنها بالطبع تونس. بالفعل فإن ما نشهده اليوم من تدفق ملحوظ للاستثمارات الخليجية في قطاع العقارات بالخصوص هو جزء من سياسة شاملة مرتبطة ارتباطا وثيقا بالوضع الاقتصادي العالمي. من هذه الناحية إذن استفادت تونس من الأزمة الراهنة وتحصلت على استثمارات كبرى لم تعرفها من قبل قد تحدث تغييرا جذريا في الوضع الاقتصادي للبلاد. ـ


قصارى القول أنه إذا كانت لأزمة الرهن العقاري تداعيات اقتصادية واجتماعية خطرة وجب التحوط منها والتقليل من درجة ضررها، فإن لها أيضا جانبا إيجابيا يجب العمل على مزيد الانتفاع الأقصى منه من خلال العمل والتفاعل معه وليس بمجرد الجلوس وانتظار ما ينوبنا تلقائيا من قوة الدفع الذاتية لتلك الاستثمارات القادمة نحونا. ـ

هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

I find your interpretation and analysis to the financial crisis perfect. For sure there are consequences on the tunisian economy if we consider the credits that should be paid back in Dollars. This crisis made the credits cheaper to pay back. However I doubt that international investors will rush into the country as long as the infrastructure and the service sector are miserable. I think a transparent economic environment free of corruption is a basic requirement to make international investments to rush to Tunisia. Who is able to change the mentality of the citizens and the political decision makers? I doubt it. Look to the tunisian families. They didn't until now realize or let's say they did not have the courage to get rid of ridiculous traditions and make things easier for their children to get married. I gave this example because it is obvious and it is a daily problem for tunisians families. So what about convincing tunisians to change his attitude. they didn't learn to be criticized. They learned that they are error-free. I've never heared a decision make admitting his mistakes. Hichem